ساركوزي .. جبهة ليبيا تفتح على فرنسا أبواب الثورة الإفريقية
كيف تحولت فرنسا فجأة إلى دولة تضع على رأس أولوياتها عسكرة سياستها الخارجية، أو ما يعرف بصعود القوة الفرنسية، في وقت تعيش فرنسا تصدعا داخليا وتراجعا وتآكلا اقتصاديا؟ وما الدوافع التي دعت الرئيس الفرنسي ساركوزي، لينقلب على حليف الأمس الذي تسلف منه ملايين الدولارات لدعم حملته الانتخابية، الذي حاول مع القذافي عقد صفقة اقتصادية وسياسية مربحة بقيمة عشرة مليارات دولار، ولماذا رفض القذافي توقيع الصفقة مرة واحدة وعمد إلى تجزئتها على دفعات، وكل دفعة تعادل مليارين ونصف تسلمت منها طرابلس طائرات عمودية، ولماذا مازح القذافي ساركوزي بأنه نسي دفتر شيكاته لتوقيع الصفقة كاملة، وهل كان القذافي يساوم ساركوزي على ملفات وخيارات وسياسات كبيرة، وماذا كان رد ساركوزي عندما طالبه الأفارقة بضرورة خروج القوات الفرنسية من إفريقيا عام 2006 فكان رد ساركوزي سنعمل على بناء علاقة جديدة ومتوازنة ومتحررة من رواسب الماضي، وعندما طالبوه بسحب القوة الفرنسية في تشاد رفض ساركوزي وبرر ذلك بأنه جزء من حماية أمن واستقرار هذا البلد، ولكن ماذا عن تدخلات فرنسا في ساحل العاج وقبلها في راوندا! وهل لذلك علاقة بما يجري في ليبيا، وهل له علاقة جيوسياسية إفريقية وخارجية أيضا! المؤشرات تؤكد ذلك؛ تؤكد أن ليبيا ستكون عقدة فرنسا الإفريقية، ولهذا سيكون التدخل العسكري مغامرة كبرى! ولماذا تحاول فرنسا أن تقلل من شأن ما يجري، فبدلا من الاستعمار Colonialisme، تؤكد أن هذا كان من الماضي لكنها تتحدث عن حضور: Présence سياسي وأمني واقتصادي، ولماذا يحاول ساركوزي تسويق مخاوفه من صومال ثانية ومهاجرين غير شرعيين، وهل يريد إخافة الفرنسيين مما يجري لتبرير إخفاقاته الداخلية وتدخله الخارجي، ما دعا النائب الاشتراكي جان لو غين للقول إن في ساركوزي شيئا من جورج بوش، ولهذا اندفع دبلوماسيون فرنسيون سابقون لإصدار بيان (لامي) مقهى فرنسي شهير قالوا فيه (لا يستطيع أي كان أن يكون دبلوماسياً)، وبحسب البيان الدبلوماسي فإن ساركوزي (مندفع وهاو ولاهث وراء الإعلام ويتميّز بعدم التناسق في القرارات) أم أن المراهقة السياسية ستعصف بوجوده السياسي، ويبدو أن ساركوزي يتقدم خطوات نحو التدخل، فيما يقدم الآخرون العوائق التي تحول دون إمكانية الحسم!
في باريس يدور حديث كبير وسط القوى السياسية الفرنسية حول السياسة الخارجية الفرنسية، والرغبة الجامحة في التدخل، وأن هذه القوى ترى أن لذلك دوافع تبدو شخصية ولا تتعلق بالأمن القومي الفرنسي فقط، ولهذا يطارد الرئيس ساركوزي خيط الدخان الليبي قبل الانتخابات الرئاسية القادمة والأزمة التي بدأت تضرب عددا من الدول الإفريقية وشعارها العام (لترحل فرنسا عن بلادنا)، ما دعا ساركوزي أن يستعجل الانقلاب على القذافي ويستعجل الحرب أيضا، وهل للقذافي علاقة بانقلاب المزاج الإفريقي ضد فرنسا وما علاقة هذا بالمصالح الأمريكية في إفريقيا، وهل ثمة تفاهم ليبي ــــ أمريكي، ولماذا خرج توني بلير ليؤكد أن الحل العسكري غير ممكن وما هو الممكن إذا؟! فيما يؤكد ساركوزي استعداد بلاده للتدخل العسكري حال موافقة مجلس الأمن الدولي!
مطلعون على السياسة الفرنسية أكدوا أن فرنسا لا تقوى على التدخل رغم أنها تبدو مضطرة إليه، ولو تدخلت فإن هذه لحظة الفرج كما يقال للقذافي، وزاد الأمر تعقيدا اجتماع القبائل الليبية أخيرا وإعلانها أنها لن ترضى بالتدخل العسكري مهما كانت أهدافه وأسبابه، وهددت بأنها لن تعترف بأي اتفاقيات وتفاهمات سرية تجري بين المجلس الوطني وفرنسا مما أثقل حمل المجلس الذي بات منتقدا للناتو، في حين كشف النقاب عن اتصالات أجراها القذافي مع القبائل أكد فيها أن ما يجري هدفه الرئيس احتلال ليبيا، وأنه على استعداده لترك السلطة مقابل الدفاع عن ليبيا وتحريرها من الاستعمار الجديد ولا مانع لديه من ليبيا جديدة، وهذه الرؤية تلهب خيالات الشعب الجزائري أيضا الذي تعتقد قيادته وقبائله أن احتلال ليبيا مقدمة لاحتلال الجزائر.
وعليه تبدو اللعبة الفرنسية في ليبيا قد تكشفت أهدافها وأوراقها وتوازناتها الداخلية والخارجية، وبدأت الأمور واضحة، ولا مجال للتشكيك فيها، وهذا ما يقوله الفرنسيون أنفسهم، من أن الرئيس ساركوزي، لا يهمه حقوق الإنسان ولا ثوار ليبيا، وإنما يهمه النفط الليبي أولا وأخيرا ويهمه الانتصار والإحساس بالنصر على مستعمرات طردت منها فرنسا بذلة، ولهذا كان الجهد الفرنسي واضحا في حظر الطيران والقصف الجوي، والاعتراف بالمجلس الوطني، وإرسال سفير لبنغازي، ناهيك عن وجود نشاط استخباري متقدم في ليبيا.
فرنسا تعيش صراعا عنيفا من الداخل، عنصرية لافتة للانتباه، وفقر كبير يصرخ على أثره الفرنسيون حتى الطبقة الوسطى فيه تشكو، الاقتصاد يتراجع ويتهاوى ولم يبق من صناعاتها سوى صناعة الطائرات وسيارات البيجو، وأما الصناعات الأخرى فقد أصبحت امتيازات صينية، وهذا الفقر قد يدفع فرنسا لاستعادة قيمها الاستعمارية السابقة، وأن تخلع عن كتفيها رداء الإنسانية والثقافة وثورة الحرية والإخاء والمساواة، وعنصرية فرنسا ليست ضد السود وضد اليهود وإنما ضد المسلمين والعرب تحديدا، وضد الحجاب الإسلامي، رغم أنه يعد من أبواب الحرية الشخصية!
يوضح أحد الفرنسيين أن القناع الفرنسي عنصري بالتمام والكمال، وأن نظرتهم لمستعمراتهم السابقة هي في أدنى السلم الإنساني، وما زالت النخبة الفرنسية التي توالدت في رحم الاستعمار تؤمن بأن ليبيا والجزائر ممتلكات فرنسية، وهو ما يطلق عليهم بالفرنسية pieds noir وهم الفرنسيون من ديانات وقوميات أخرى ولدوا في البلاد التي تم استعمارها، فهؤلاء يشكلون نخبة الإدارة الفرنسية الأمنية والعسكرية، وأن لديهم رغبة لإثبات الولاء لفرنسا وأن يكتب التاريخ الفرنسي عنهم كشخصيات استثنائية، وهي عوامل سببها الإحساس الداخلي بالتهميش وربما النبذ!
فعملية الصراع الجارية اليوم في ليبيا ليست وليدة اللحظة، وليست قضية شركة total الفرنسية إلا جانب مظلم من شكل المأساة الليبية ـــ الفرنسية، فقد ضغطت فرنسا منذ ثلاث سنوات على ليبيا لتحرير النفط الليبي وألا يبقى في عهدة شركة النفط الليبية، وأن تدخل توتال شريكا رئيسا فيه، وألا يبقى محصورا على شركات بعينها، وهي القصة نفسها التي نجمت بعد تأميم العراق نفطه عام 1970، إذ خلقت له الدول الكبرى أزمات عديدة كانت نتيجتها الاحتلال الأمريكي عام 2003، وأن الرئيس الفرنسي جاك شيراك إبان كان عمدة باريس عام 1975 زار العراق والتقى قيادته وقال كلمة ما زالت محل الاهتمام (إذا استطاع العراق أن يمضي قدما في خططه التنموية دون حروب أو استنزاف خلال السنوات العشر المقبلة سيتحول العراق لدولة مهمة في الشرق الأوسط) وبالفعل لم تمض خمس سنوات حتى فرضت عليه الحرب من قبل إيران، لكن بعد الحرب كان غزوه للكويت، وكان العراق المنهك عسكريا واقتصاديا ونفسيا وأمنيا قد منح أمريكا الفرصة لحصاره ومن ثم احتلاله 2003.
وعندما دعونا في مقالنا السابق لأن تبنى دول الخليج جيش دفاع ووكالة للاستخبارات الخليجية، فإن المسألة ليس فيها تجاوز عن الحقائق والواقع، فالأمور تتجه مع تطورات المستقبل لهذه المعادلات لحفظ الأمن والاستقرار، فبدون هذه المنظومة الأمنية المتكاملة سيبقى الأمن الخليجي مهددا ومخترقا أو خاضعا لسياسات إقليمية، لكن ما علق به البعض ساخرا بأن هناك حاجة لغواصات نووية وصواريخ باتريوت وبوارج وأجهزة تشويش، فإن هذا المنطق وهذا التفكير تعوزه السلامة الاستراتيجية، والاتعاظ بتجارب الشعوب الحية، ولعلنا نسوق هنا ما قاله الجنرال جياب الذي هزم فرنسا وأمريكا في فيتنام رغم فارق التوازن العسكري والمادي بين الطرفين (إن أي تعد أو مؤامرة على سيادة دولة وشعب ''حر'' ستهزم ولن تستقر طويلا إذا ما امتلك هذا الشعب إرادة صلبة وعقيدة صائبة).
وهنا وبما أن حديثنا عن أن الحراك الرئيس لفرنسا هو النفط وأن شركة توتال الفرنسية تجشمت خسارة قدرها 650 مليون دولار أنفقتها على زعماء ليبيين وأفارقة، ولضمان توقيع عقد نفطي استراتيجي بين ''توتال'' وليبيا، ويظهر الدور الفرنسي أيضا في حروب شريط أوزو الغني باليورانيوم والمنجنيز، التي حصلت بين تشاد وليبيا بدعم وإسناد فرنسي، بالرغم من أن الوثائق والمعاهدات الاستعمارية التي اتخذت لترسيم الحدود تؤكد تبعيته لليبيا، واستندت طرابلس إلى اتفاق قديم بين إيطاليا (في عهد موسوليني) وفرنسا (في عهد رئيس وزرائها بيير لافال)، عُرفت بمعاهدة (موسوليني ـــ لافال)، عُقدت بين إيطاليا (الدولة المحتلة لليبيا) وفرنسا (الدولة المحتلة لتشاد) في روما في السابع من كانون الثاني (يناير) 1935، تضمنت تنازل فرنسا لإيطاليا عن هذا الشريط ليصبح من حدود ليبيا. إذا الصراع حول ليبيا ليس مرتبطا بسياسات العقيد القذافي ومنهجيته وأيديولوجيته وأخطائه ومركزيته ـــ كما يقال ـــ فقد هرع الرؤساء الأوروبيون في وقت سابق لمقابلة الرئيس الليبي في خيمته الصحراوية للفوز بالعقود النفطية، اعتذروا لليبيا، وفكت ليبيا من رقبة المحكمة الدولية وقضية لوكيربي بالمال الليبي، قبل الغرب بذلك، ولم يعنيهم حال المجتمع الليبي آنذاك، بل كانت تعنيهم مصالحهم أولا واستثماراتهم وعقودهم.
اليوم تبكي فرنسا حال المواطن الليبي، رغم أن كل المؤشرات الاقتصادية تفيد بأن دخل المواطن الليبي أعلى بكثير عنه من دخل المواطن الفرنسي، وهذا بالطبع ضاعف من منسوب العنصرية الفرنسية حيال ليبيا والجزائر تحديدا، ففرنسا عموما لا تنتج قطرة نفط واحدة و''توتال'' تعد سادس شركة عالمية في مجال النفط وفي المداخيل العالية من وراء الاستثمارات النفطية في إفريقيا على الخصوص، وهذا مدعاة للتساؤل؟ والتساؤل الأخطر: ماذا عن الاتهامات بالتورط في جرائم ضد الإنسانية التي تلاحق ''توتال'' الفرنسية في بورما، وجاء ذلك على لسان محامي اللاجئين إليكس ديزويف تعليقا على الشكوى التي قدمها اللاجئون في عام 2002، غير أن القضية تمت عرقلتها لأسباب عديدة بشكل يؤكد صحة ما جاء في هذه الشكاوى.
ولكون أسعار النفط بدأت تشهدا تصاعدا حادا، يؤثر في اقتصاد فرنسا لحساب المنتجات الأمريكية والصينية واستفادة واشنطن وبكين من تداعيات الأزمة النووية والاقتصادية في اليابان، ولأن ذلك يضاعف من وتيرة الانفعالات وتشكيل التحالفات السياسية الفرنسية وترسيم السياسات والمسارات الجديدة، فإن الحرب والاستعمار يعدان خيارا مثاليا للهروب من هذه الأزمات، فالرأي العام الفرنسي سيعارض بالطبع، لكنه سرعان ما سيعود عن معارضته تلك عندما تبدأ السيطرة الفرنسية على النفط الليبي، وعندما تهيمن ''توتال'' على الحصة الكبرى فيه.
ومن يقرأ في التاريخ يجد أن ثمة رابطا مهما وكبيرا بين حركة التحرر الوطني في فيتنام وحركة التحرر الوطني في دول المغرب العربي وتحديدا تونس وليبيا والجزائر. وبحسب مذكرات الجنرال جياب القائد الأسطورة لقوات التحرير الفيتنامية الذي هزم قوتين استعماريتين كبيرتين في غضون 20 عاما. هزم القوة الاستعمارية الفرنسية في أيار (مايو) عام 1954 عندما استسلمت له القوات الفرنسية في معركة (ديان بيان فو) الشهيرة بعد حصار استمر 56 يوما. وهزم القوة الاستعمارية الأمريكية وأجبرها على الرحيل منكسرة في 30 نيسان (أبريل) عام 1975، وعندما التقى جياب وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا قال له جياب (القوة الخارجية لا تهزم شعبا يمتلك إرادة صلبة وعقيدة صائبة، وقال له عندما غزتنا فرنسا وأمريكا لم تدركا قانون الطبيعة الأزلي (كلنا فيتناميون كلنا ضد الأعداء)، فالاستعمار والغزو الخارجي يوحد ويؤلف أبناء الأمة كافة ويتناسون خلافاتهم أمامها، هذا إن امتلكت قوة وعقيدة صائبة، وليس المطلوب فقط امتلاك غواصات نووية وبوارج وباتريوت رغم أهميتها أيضا.
في مذكراته يروي جياب كيف أن الاستعمار الفرنسي كان يعتمد أساسا على جنود جرى تجنيدهم بالقوة من المستعمرات الفرنسية في الجزائر وبعض المناطق الليبية ومن المغرب وتونس، وبعض الدول الإفريقية، وأن كبار قيادات الجنود كانوا من الفرنسيين، ويذكر جياب أن قدر المقاومة الفيتنامية أنها لا ترحم أعداءها، وأنها أخضعت الفرنسيين منهم إلى حالة من الذل والتعذيب النادرة، وأنهم كانوا يصلبون الجنود والقيادات الفرنسية كما الذئاب ويتفننون في تعذيبهم واستخلاص المعلومات منهم، لكنهم لم يعذبوا أبناء المستعمرات الفرنسية، بل منحوهم درسا في الوطنية وفي الإيمان بالقدرة على تحرير بلدانهم من أكبر قوة، بل أخضع الفيتناميون هؤلاء المغاربة والأفارقة للتثقيف والتعبئة السياسية والتدريب أيضا، وكان السؤال اليومي: كيف ترضون على أنفسكم أن تغزو وتستعمروا دولا وشعوبا ليس بينكم وبينهم عداوة ولا تدافعوا عن بلادكم، وعن أهاليكم وزوجاتكم؟ وأطلقوا سراح الأسرى منهم بشرط الالتحاق بالمقاومة وحركة التحرر في المغرب العربي، وقالوا لهم هذه فرنسا التي تستعمركم انظروا لقادتها كيف يعترفون بمجرد أسرهم ويتوسلون لقمة الخبز ولا يقوون على الدفاع عن شرفهم العسكري أمامنا، وهزمت فرنسا شر هزيمة وتراجعت، وهزمت في المغرب العربي، هزيمة ما زالت تشكل غصة في حلق فرنسا حتى اليوم، فطرد المغاربة فرنسا رغم قسوة الاستعمار الفرنسي الإفنائي، هزمته العقيدة الصلبة والتصميم على تحرير المغرب العربي، ولم تكن لديهم غواصات ولا بوارج ولا فرقاطات! ولهذا ما زال التاريخ الليبي يذكر كلمات عمر المختار (الطليان أكبر قوة ونحن كبار إيمان).
ولهذا تعيش فرنسا عقدة المغرب العربي مثلما عاشت أمريكا عقدة فيتنام التي ظلت تطارد أمريكا طيلة فترة ما بعد الحرب وظلت تبحث عن نصر هزيل تداري به سمعتها، فضخمت العراق وتجاوزته صواريخها النووية وهي لا تحمل قيمة إنسانية. كان أبو غريب أحد أهم معالمها الرئيسة التي ستبقى سبة في جبين الحرية والديمقراطية الأمريكية والغربية، فهؤلاء لا يعلمون العالم الحرية، بل يركزون الضوء على أهمية قيم الإسلام العظيم إسلام العدل والحرية والإنسانية، ولمن يرغب في التزود بمعرفة توجهات التدخل بعد فيتنام فليقرأ كتاب (ما بعد عقدة فيتنام: اتجاهات التدخل الأمريكي في الثمانينيات) تأليف مايكل كلير وترجمة عمر محجوب، مؤسسة الأبحاث العربية عام 1982، وكيف أنشأت أمريكا قوات التدخل السريع، وكيف تحدث الكسندر هيج عن مخطط أمريكي لغزو العراق وغزو ليبيا، وأنها بلدان صحراوية ممتدة ليس فيها أشجار ولا حشائش ولا فيها مقاتلون كما في فيتنام.
وباريس كانت تنتظر انفجار الشارع الجزائري بعد تونس مباشرة، ويبدو أن هذا الاعتقاد كان مهيمنا على الإدارة الفرنسية لحين خرجت الأمور عن طورها في ليبيا، بينما تمكن الجزائريون من إحباط محاولات فرنسية غير مباشرة لدفع الجزائر نحو الثورة، الأمر الذي أسهم في توحيد الجهود الجزائرية والتحرك نحو الإصلاح ونحو منع أي محاولة للمساس بالأمن الوطني الجزائري، كشفت عنه التحركات العسكرية الجزائرية قرب الحدود الليبية، وأيضا المحادثات مع قبائل الطوارق، فالجزائريون ينظرون للحراك الفرنسي ورغبته في التدخل المباشر بأنه يعكس رغبة قوية للسيطرة ستطول الجزائر، لهذا أعلنت أنها لن تسمح بالاقتراب من أمنها وسيادتها، في الوقت الذي تبدي فيه الجزائر دعما لعدم التدخل العسكري في ليبيا، وعليه فإن الجزائر باتت معنية بتعقيد الأوضاع في ليبيا حال قررت باريس التدخل العسكري.
وفي هذا المجال نرى أن ثمة رغبة أمريكية خفية بعدم الإنجرار نحو أفغانستان جديدة وعراق جديد، ولهذا كانت واشنطن معنية بتوريط فرنسا في الملف الليبي الذي سيكون صعبا ومعقدا لعدة أسباب: أولا وجود رفض ليبي قبلي لأي تدخل عسكري، وثانيا أن التدخل العسكري يكشف النقاب عن أن المجلس الوطني كان أداة وحصان طروادة للتدخل، والثالث أن التدخل يعيد الاعتبار لصورة وسلطة الرئيس القذافي باعتبار أن الاحتلال والسيطرة على النفط هو الهدف الرئيس، ورابعا أن ليبيا فضاء مفتوح وله علاقة بالعمق الاستراتيجي الإفريقي.
وتكشف المعلومات أن الإدارة الأمريكية لم توافق في البداية على المشاركة إلا بعد ضمانات وبعد اقتطاع تكلفة المشاركة من الأموال الليبية في الخارج، حيث تشير هذه المعلومات أن التصريحات الفرنسية حول تجميد أموال القذافي أدت إلى تساؤل من قبل المعارضة الفرنسية عن حجمها وكيفية إيداعها وباسم من، حيث تبين أن جميعها باسم بنك الاستثمار الليبي وهو مؤسسة رسمية حكومية للاستثمار الخارجي، ما أحرج الرئاسة الفرنسية، خاصة أن ساركوزي على أبواب انتخابات قادمة، وذلك بعد أن تراجع حجم ووزن تيار يمين الوسط الذي يتزعمه الرئيس نيكولا ساركوزي، وحافظ تيار يسار الوسط الذي تتزعمه سيغولين رويال زعيمة الحزب الاشتراكي الفرنسي، إضافة إلى التطور اللافت للنظر المتمثل في التزايد الكبير في شعبية ووزن وحجم تيار اليمين المتطرف الفرنسي، ناهيك عن أن الديمقراطيين الأمريكيين باتوا أكثر إدراكا لمحاولات ساركوزي دعم المحافظين الجدد على حساب الحزب الديمقراطي من خلال تبني فرنسا لتوجهات المحافظين السياسية في السياسة الخارجية لإحراج أوباما، ونتيجة لهذا الاندفاع وجدت الإدارة الأمريكية إمكانية إلباس ساركوزي خوذة المقاتل بالإنابة للتورط في الشأن الليبي وتداعياته، وأيضا تأليب الرأي العام الفرنسي المعارض للتدخل العسكري، وتأثير ذلك على الانتخابات المحلية الفرنسية، الأمر الذي يكشف عن وجود ملامح حرب بإرادة أمريكية ــــ فرنسية منذ خمس سنوات تحديدا. وترى التحليلات أن واشنطن استطاعت خلال هذه السنوات توجيه كثير من اللطمات للسياسة الفرنسية وخاصة الملف العراقي وملف إيران النووي وملف العملية السلمية والملف التونسي وملف الأزمة الموريتانية، فقد واجهت الدبلوماسية الفرنسية صعوبات كبيرة في هذه الملفات، والآن تواجه فرنسا الموقف نفسه في الملف الليبي الذي لن يكون نزهة في الرمال بالطبع، لأن صدى؟ بساطير؟ العسكر الفرنسيين سيسمع في باريس التي لن تكون آمنة طبعا! ففرنسا تجهل قانون التحولات وقانون كلنا مغاربة وكلنا أفارقة إن كان هناك عدو خارجي.
يحاول ساركوزي أن يحقق كسبا متقدما فيما يتعلق بالضربة الجوية على ليبيا باعتباره بطل الضربة الأولى، وقد يكون هذا مخالفا لنمط وطبيعة الفرنسيين وخشيتهم من تبني الخيارات العسكرية في العلاقات الخارجية، وعلى الرغم من أن البعض يراها جرأة مضاعفة وأنها ناجمة عن حقيقة التغيير في البنية السياسية الفرنسية، فإن كثيرين يرونها هروبا إلى الأمام من مشكلات داخلية، ويرون أيضا أن الحرب الجوية لن تحسم المعركة، وأن القذافي سيجد من يدعمه سرا بهدف استنزاف فرنسا، والقذافي يدرك أن معركته الحقيقية ليست مع الثوار وليس بتلقي الضربات الجوية وإنما معركته الحقيقية عندما يدخل أول جندي فرنسي للأراضي الليبية؛ عندها فقط ستتغير خريطة التحالفات على الأرض وسيصبح القذافي بطلا وطنيا، ناهيك عن تحالفات سرية بين القبائل لدعم أية مقاومة لمنع التدخل العسكري، وأكثر من ذلك أن الرؤية الألمانية متحفظة جدا لجهة التدخل العسكري، لأن التدخل في ليبيا يعني ضمنا دخول إفريقيا على الخط، وهذا ما سيثير شهوة المقاومة الإفريقية للتدخل الأجنبي، ورفض السيطرة الأجنبية على ثروات إفريقيا، فإفريقيا تئن والثورة تحتاج إلى مجانين ليشعلوا نارها، وربما يعمد القذافي إلى دعم حركات وطنية في دول إفريقية للمطالبة برحيل فرنسا وقواتها ليس من ليبيا فقط بل من إفريقيا كلها أيضا، ومن المحتمل أن تشهد تشاد القريبة من ليبيا، وعندها قد لا تتحمل فرنسا الضربة على مكانين أو أكثر في رأس واحد.
المشكلة ليست مع القذافي يبقى أو لا يبقى في السلطة أو مع الثوار أو ضدهم، المسألة ليبيا أولا ورفض عودة الاستعمار ثانيا، خاصة أن ما يجري هو معادلات ومصالح سياسية وظروف معقدة وتدخلات وفرص وتوازنات وأخطاء واستفادة من هذه الأخطاء القاتلة، وأيضا توريط سياسي ومخاوف مغاربية، ولهذا يبحث الغرب الآن عن حل سياسي ودبلوماسي وربما حل يفضي إلى تنازلات داخلية أو بقسمة ليبيا أيضا لكن القسمة السياسية لن تصمد طويلا لمن يعرف حقيقة الليبيين والمغاربة عموما في وقت يستذكر المغاربة معركة أيسلي ضد الفرنسيين؛ كيف تطوعت القبائل المغاربية لدعم ثورات الجزائر ضد الغازي الفرنسي!!