اليابان وهزاتها السياسية
نادراً ما حظيت اليابان بهذا القدر من التغطية الصحافية ''الودية'' في الخارج ـــ ربما منذ الحرب العالمية الثانية. حتى إن صحف كوريا الجنوبية كانت عامرة بالثناء على الانضباط الذاتي لليابانيين العاديين في الظروف العصيبة. والواقع أنه ليس بالشيء القليل أن يأتي مثل هذا الثناء من الكوريين، الذين لم يشتهروا بأنهم من أكبر مشجعي اليابان.
لكن حينما يتعلق الأمر بالمسؤولين اليابانيين، تصبح الأمور مختلفة بعض الشيء. فقد تعددت شكاوى المراقبين الأجانب وفرق المساعدات والمراسلين الصحافيين والمتحدثين باسم الحكومات من افتقار البيانات الرسمية اليابانية إلى الوضوح، ناهيك عن المصداقية، فيما يتصل بعديد من الكوارث التي أعقبت الزلزال الهائل الذي ضرب شمال شرقي اليابان في 11 آذار (مارس). ومن الواضح أن البيانات الرسمية تجنبت الحديث عن عديد من المشكلات الخطيرة، أو أخفتها عمدا، أو قللت من جسامتها.
والأسوأ من ذلك أن عدداً قليلاً من الناس يفهمون من كان مسؤولاً عن ماذا؟ وفي بعض الأحيان بدا الأمر وكأن الحكومة اليابانية أبقيت في الظلام من قِبَل المسؤولين في شركة طوكيو للطاقة الكهربائية ''تيبكو'' المالكة لمحطات الطاقة النووية التي تسرب منها الإشعاع إلى البر والبحر والسماء. حتى أن رئيس الوزراء ناوتو كان قد اضطر عند نقطة ما إلى توجيه هذا السؤال إلى المسؤولين التنفيذيين في شركة تيبكو: ''ماذا يجري بحق الجحيم؟''. وإن لم يكن رئيس الوزراء يعرف ما يجري، فكيف لأي شخص آخر أن يعرف؟ والواقع أن البيروقراطيين الأقوياء في اليابان، الذين كان الافتراض حولهم عادة أنهم يعلمون ماذا يفعلون، بدوا وكأنهم لا يقلون عجزاً عن الساسة المنتخبين.
وخارج اليابان، يُعتَقَد على نطاق واسع أن كل شيء يعمل على نحو مختلف هنا، بسبب الثقافة اليابانية الغريبة عن بقية الناس. وهذا التصور ليس خاطئاً بالكامل. ذلك أن جانباً مهماً من الثقافة يتمثل في استخدام اللغة, فكثير من أحاديث المسؤولين اليابانيين تخرج غامضة بشكل متعمد، في محاولة لتجنب الاضطرار إلى تحمل المسؤولية إذا ما ساءت الأمور ـــ وهي سمة عالمية إلى حد كبير بين الأقوياء. لكن بعض الأحاديث قد يساء تفسيرها بسبب الترجمة. فعندما يقول مسؤول ياباني إنه سيأخذ أمراً ما في الاعتبار بشكل جدي, فهذا يعني أنه يرفض ذلك الأمر, وقد لا يُفهَم هذا بشكل صحيح دوما.
لكن فيما يتصل بالاستجابة الرسمية اليابانية للكوارث المرتبطة بالزلزال وموجة المد العارمة ''التسونامي''، فإن الغرابة الثقافية لا تشكل تفسيراً وافيا. ولم يكن اليابانيون أنفسهم في واقع الأمر أقل انتقاداً من الأجانب، إن لم تكن انتقاداتهم أكثر حدة للعجز الواضح الذي أبداه الساسة اليابانيون، والمراوغة والتعتيم من جانب المسؤولين في شركة تيبكو.
بل إن بعض الناس يتركون الأمان النسبي في طوكيو، بعد أن فقدوا الثقة بالحكومة وشركة تيبكو، التي تتسم بتاريخ من التغطية على عيوب خطيرة في منشآتها النووية, فقد كشف تحقيق أجري عام 2002 عن تقديم ''تيبكو'' بيانات كاذبة للحكومة، هذا فضلاً عن الحوادث المخفية والشقوق المستترة.
والواقع أن انهيار الثقة الجماهيرية بالمؤسسة الرسمية اليابانية قد يكون مثيراً للقلق والانزعاج إذا أدى إلى انهيار للديمقراطية. لكنه قد يؤدي أيضاً إلى تغييرات ضرورية. ورغم أن أنظمة الحكم ربما تشتمل على مكونات تقليدية معينة، فإن المشكلات التي تعانيها اليابان نظامية وليست ثقافية.
كانت الحكومة اليابانية تتسم دوماً بالأبوية، وكان تسلسلها القيادي يتسم بالتعقيد والغموض, فأثناء الحرب، كان الإمبراطور كلي القدرة من الناحية النظرية، لكنه كان عاجزاً نسبياً في واقع الأمر. لكن لم يظهر قَط أي ميل ديكتاتوري أيضا. وكانت القرارات الناتجة عن مفاوضات غامضة وخصومات مستترة بين البيروقراطيين ورجال البلاط الإمبراطوري والساسة والمسؤولين العسكريين، تُدفَع في هذا الطريق أو ذاك بفعل ضغوط داخلية وخارجية متعددة، وكان بعض هذه الضغوط عنيفا.
ورغم أن النظام السياسي في مرحلة ما بعد الحرب لم يعد ميالاً إلى القتال، فإنه لم يكن أقل غموضا، حيث كان البيروقراطيون يتصرفون وكأنهم محركو دمى للساسة الذين يعانون نقص التمويل وسوء الاطلاع، والذين أداروا عمليات دعم مالي إقليمي إلى جانب كبريات الشركات، التي عملت بدورها بتعاون وثيق مع البيروقراطيين. وطالما استمرت اليابان في ممارسة لعبة اللحاق بالغرب، واستمر تركيز الحكومة والموارد الصناعية على النمو الاقتصادي، فإن النظام كان يعمل بشكل جيد إلى حد كبير. بل إنه كان موضع حسد عديد من الغربيين، الذين ضاقوا ذرعاً بجماعات الضغط التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية، والنقابات العمالية المزعجة، والساسة الساعين دوماً إلى التدخل. والآن أصبح هؤلاء الغربيون متيمين بالنظام السياسي الأبوي في الصين ـــ الذي يتسم بالقدر نفسه من الغموض والاستعصاء على الفهم.
لكن هذا النظام هو الذي أفرز المشكلات المرتبطة بشركة تيبكو الآن. فقد كانت الزمر المتماسكة من البيروقراطيين ومسؤولي الشركات حريصين على حماية شركات المرافق التي تشكل أهمية حيوية للنمو الاقتصادي من أي تعويق ناتج عن تنظيمات صارمة أو رقابة سياسية. والواقع أن العلاقات الدافئة بين المسؤولين الحكوميين وعالم الشركات ـــ وليس فقط في حالة تيبكو ـــ انعكست في العدد الضخم من البيروقراطيين المتقاعدين الذين تولوا مناصب في مجالس إدارة الشركات التي يفترض أنهم كانوا يتولون تنظيمها ذات يوم.
إن عديدا من اليابانيين مدركون هذه المشكلات، ولهذا السبب صوتوا للحزب الديمقراطي الياباني تحت زعامة ناوتو كان في عام 2009، فانكسر بذلك الاحتكار السياسي الذي مارسه الحزب الديمقراطي الليبرالي المحافظ طوال نصف قرن من الزمان. فمن بين الأهداف التي أعلنت عنها حكومة الحزب الديمقراطي الياباني كان زيادة شفافية النظام السياسي: تقليص سلطات البيروقراطيين المستترة، وزيادة مسؤوليات الساسة المنتخبين.
وبالتالي فإن فترة ما بعد الزلزال قد تشكل حداً فاصلاً محتملا. وإذا لمنا حكومة اليابان عديمة الخبرة نسبياً عن كل ما يحدث من أخطاء، فقد يرغب الناس في الارتداد إلى الأساليب القديمة القائمة على الأبوية الغامضة. لكن من ناحية أخرى، إذا أدرك العدد الكافي من الناس أن الأساليب القديمة هي المشكلة وليست الحل، فإن الإصلاحات الديمقراطية ستحظى بالفرصة لمواصلة القتال.
وهذا من شأنه أن يلقي بصيصاً من الأمل المشرق على الكآبة التي تحيط باليابان اليوم.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.
www.project-syndicate.org