نزهة ساركوزي العسكرية من أجل النفط

نزهة ساركوزي العسكرية من أجل النفط

نزهة سافرة بالألعاب النارية من أجل النفط عبر تقسيم ليبيا، باستعادة خريطتها ما قبل توحيدها مطلع الخمسينيات بعد تحريرها من الاستعمار الإيطالي، فتعود إلى ثلاث ولايات: برقة Cyrenaica، طرابلس Tripolitania وفزان Fezan.
ما الغريب، أليست هناك ''سابقة'' انقسام السودان بالأمس القريب؟ بغض النظر عن اختلاف الظروف والأسباب. باريس ترى أن واشنطن كانت خلف اتفاق السلام السوداني الذي انتهى بالتقسيم، فلِمَ لا تجرب بدورها تقسيم ليبيا؟ كما أنها قادت حربا على العراق من قبل لتنال وضع ''الدولة الأولى بالرعاية'' والاستفادة من النفط العراقي بحُجة التحرير، فلِمَ لا يُحل لفرنسا ذلك؟
الوضع في ليبيا يتجه نحو طريق مسدود، فقد بدأ بثورة شعبية مشروعة، ثم تحول إلى مشروع حرب أهلية بالتجريدة الدولية على ليبيا من الجو.
عندما خرج الشعب الليبي في ثورته، كان ضامنا انحياز حركة التاريخ إليه، فليس هناك من يصمد أمام عجلته التقدمية متى ما انطلقت، لكن التدخل الأجنبي بهذه الصورة الهجمية التي استباحت السماء وأوغلت في الدماء، ستعوق تقدمه؛ لأنه يراهن على الوحدة. لقد خرج الشعب الليبي طالبا حريته وكان مستعدا لدفع ثمنها، وإذا كانت هناك من نوايا حسنة لمساعدته على استكمال الثورة، فقد كان في الإمكان:
1 – الاكتفاء بفرض منطقة حظر الطيران، دون اللجوء إلى الضربات الجوية المهولة وغير المبررة، التي لم تكتف بتدمير مقدرات ليبيا العسكرية، وهي لا تذكر، بل امتدت إلى البنى التحتية وهي رأسمال ثابت للأجيال الليبية بعد القذافي.
2 – كان في الإمكان خلق ممرات دولية لتوصيل الأسلحة إلى الثوار في بنغازي، وتأمينها بحرا وجوا.
3 – تشديد العقوبات الاقتصادية على ليبيا، ومقاطعتها دبلوماسيا.
4 – بل كان في الإمكان الاعتراف بحكومة مؤقتة في بنغازي، شرط التعهد بالحفاظ على تكامل التراب الليبي، وبطرابلس عاصمة موحدة له.

مؤامرة دولية وغفلة «جامعة عربية»
لكن رائحة المؤامرة الدولية تفوح من إجماع مجلس الأمن بقلب رجل واحد، على ''استخدام كل التدابير اللازمة''!؟ لحماية المدنيين الليبيين، فهل خلت المناطق التي يسيطر عليها القذافي من المدنيين الليبيين؟ أم أن هناك دما ليبيا يستحق الدفاع عنه وآخر لا يستحق إلا الإراقة؟ وطائرات الغرب ترجم بالغيب من السماء، من هم على الأرض بشرر كالقصر؟
لقد أخطأت الجامعة العربية بنفس ''الهرولة'' التي عابها السيد عمرو موسى على الأردن من قبل، في سعيه إلى السلام مع إسرائيل في منتصف التسعينيات، بهرولة جامعته إلى منح ''شيك على بياض'' للقاء باريس الذي تمت تغطيته أمميا لضرب ليبيا! أما كان حريا بالجامعة وأمينها وضع تحفظاتها وشروطها قبل الموافقة، وما العراق وتجربته ببعيد! لا غرو أن خرج السيد موسى متأخرا ليصيح بأن هذه الضربات ليست ضمن ما تم الاتفاق عليه! وأنه قد وُضع في خانة من تم ''الضحك عليه'' يا لها من ''سابقة سيئة وغير مبررة'' اقترفتها الجامعة العربية، في ظل دبلوماسي محنك Career Diplomat وعريق! ينوي الترشح لرئاسة مصر، أين ذهبت حماسته القومية وغيرته التي أبداها بشأن العراق؟

شنشنة ساركوزي
وهي ''شنشنة نعرفها من أخزم'' من قبل، وقد انكشفت في ظل الخلافات الأخيرة ما بين فرنسا وبقية الدول المشاركة في الحملة العسكرية الشرسة على ليبيا. من الواضح أن ساركوزي يريد كل الصيد الكامن في الفراء أي النفط الليبي، خاصة في رهانه على شرقي ليبيا في برقة وعلى فزان في الجنوب، فقطرة النفط الليبية أكرم وأغلى لديه من نقطة الدم العربية.
من بديهيات النظرية السياسية، أن السياسي أو النظام السياسي متى ما واجه مخاطر داخلية معينة، سعى إلى التنفيس عنها بالمغامرات الخارجية، خاصة العسكرية التي تستحث المشاعر الوطنية وشوفينية الجنود في استعراض القوة على الضعيف.
استطلاعات الرأي في فرنسا، في ظل أسلوب حكم ساركوزي الذي أفقد فرنسا تميزها الدولي بجملة من القرارات، مبررة وغير مبررة، وضعت مرشحة اليمين المتطرفة مارين لوبن، وريثة والدها، في المقدمة لشغل منصب رئاسة الجمهورية، مع ترجيح عدم انتظارها خوض جولة ثانية.

تحفظات أوروبية ودولية
من المثير هرولة باريس من دون بقية دول العالم إلى الاعتراف بالثوّار في ليبيا، حتى أن وليم هيج وزير خارجية بريطانيا حذّر بالقول: نحن نعترف بالدول وليس بجماعات داخل الدول!
لكن ساركوزي، الذي يريد تلميع نفسه من سقطات سياسته الخارجية وصداقاته مع طغاة رحلوا بالأمس القريب، عمد من بعد التضحية بوزيرة الخارجية إلى الإتيان بثعلب السياسة الخارجية الفرنسية العجوز آلان جوبيه؛ لتأمين حصول ليبيا على طريقة شايلوك لدينها بتأييد الثورة، في صورة أرطال من اللحم وهو هنا النفط. وزير الداخلية الفرنسي جيان خرج قبل يومين ليتحدث عن ''حرب صليبية'' يقودها ساركوزي ضد القذافي! فتأمل، صليبية من أجل ماذا؟ إذاً فلننتظر الجهاد.
أما ألمانيا، فقد اتخذت موقفا يشبه القطيعة مع فرنسا في حملتها، فهي تدرك أن المسألة ستبدأ بحرب من الجو، ولكن ليبيا أرض شاسعة ووضعها بالغ التعقيد، ولن تحسم المعركة خلال نزهة هذا القصير، فإذا كان القصير الآخر نابليون قد هزمه جنرال الجليد الروسي، فإن هذا مهدد بأن يهزمه جحيم الصحراء الليبية.
القذافي، ومن يفهم شخصيته، يستعد لحرب استنزاف طويلة، فهو على الأرض ومن العبث تصديق أن كل الليبيين ضده. إنه، بغض النظر عن تأييده، ثابت على الأرض، ويقف معه التاريخ في أنه ما من حرب تم كسبها من الجو.
ليام فوكس وزير الدفاع البريطاني ألمح إلى أن الهدف من الحرب ''الجبانة'' على ليبيا من الجو، تستهدف حياة القذافي!
وفي أمريكا بالذات، التي ما زالت تعاني في أفغانستان، وتجتر المعاناة الدامية في العراق، هناك مخاوف من جرجرتها إلى حرب برية في صحراء مترامية الأطراف، وهو ما يفسر زهدها في الاستمرار في قيادة العمليات الجوية، مفضّلة نقلها إلى ''النيتو'' وهو ما لا تريده فرنسا؛ لأن القائد العسكري للحلف يجب أن يكون أمريكيا، حسب التقاليد التي نشأت منذ تأسيسه: الأمين العام من أوروبا، والقائد العسكري من أمريكا.
إيطاليا، هددت بإغلاق قواعدها التي تنطلق منها الهجمات، فهي لم توافق إلا على مضض، بعد أن تأكد لها أن الأرض تميد من تحت القذافي في الأيام الأولى للثورة، وهي ليست مستعدة لأن تخوض معركة يكون فيها لفرنسا الغنم وليس لها إلا الغرم، فهي أكبر شريك تجاري أوروبي لإيطاليا، علاوة على المصالح الاقتصادية الراسخة والمزدهرة.

جراتسياني أم عمر المختار؟
إذا كان ساركوزي قد ارتضى لنفسه بأن يضع قناع الجنرال جراتسياني الذي ارتكب جرائمه بحق الشعب الليبي من قبل في عهد موتسوليني، فقد أتاح للقذافي وضع قناع عمر المختار، ففي السياسة الداخلية أو الخارجية'' لا تتح لخصمك فرصة التحول إلى بطل في الحياة أو شهيد بعد الموت، وهو ما يفعله الغرب بالضبط الآن، فقد أوجد للقذافي المخرج، فهو إن عاش عاش بطلا ضد الغزاة، وإن قُتل مات شهيدا في الدفاع عن الأرض، وهي كالعرض، وأغلى من الولد.
يبقى أن تصاعد الخلاف حول إدارة المعركة فوق ليبيا بين فرنسا في معسكر وبقية الدول في معسكر مضاد، انكشاف فاضح للمقاصد الحقيقية للعب ساركوزي بالنار من الجو، في حرب استنزاف طويلة لن تُحسم إلا على الأرض، وواهم من تخيل دون ذلك، إلا إن كان الهدف هو إبادة الشعب الليبي كله، مهما كلف الثمن، بحجة حماية المدنيين.

الأكثر قراءة