السعودة وصناعة الثروة (2)
البطالة مشكلة شديدة التعقيد ومتشابكة تسهم فيها عدة أطراف (المجتمع والمؤسسات الحكومية والقطاعات التجارية) وأمثلها بكرة ثلج داخلها قنبلة موقوتة تدحرجها كل جهة على الأخرى للتنصل منها والكرة يزداد حجمها، والحلول الفردية حلول مسكنة تؤجل انفجارها. واليوم أؤكد أهمية التعليم بشقيه العام والجامعي وما بينهما. فتصريح معالي وزير التعليم العالي على هامش المؤتمر العلمي العالي الثاني للطلاب في جدة بأن هناك تعاونا بين وزارته ووزارة التربية والتعليم بهدف تهيئة الطالب وفق مواصفات التعليم العالي أعتبره بداية لمشوار طويل ومهم لإحدى ركائز التنمية في المملكة. إن موضوع التربية والتعليم طويل (سيتم التطرق له لاحقا) لكن المهم أن التعاون ضروري ومهم والجامعات تؤكد الحاجة إلى صقل مهارات خريجي الثانوية التي تساعدهم على التكيف الجامعي ولكن المشكلة الأكبر لمعضلة البطالة هي عدم ترشيد وتوجيه طلاب المرحلة الثانوية نحو التخصصات الجامعية والمهنية ومجالاتها الوظيفية بشكل يسمح للطالب بالتفكير الجيد والاختيار المناسب ويؤدي إلى التوظيف السريع وتجنب التعقيدات المستقبلية.. لذا يجب أن يكون هناك تعريف بالمؤسسات المهنية والفنية التي تفتح الآفاق للشباب للتخصص في الأقسام والمهن التي تلائم ميولهم وقدراتهم وتساعد على توظيفهم مستقبلاً، وبذلك نسهم في بناء الوطن وتنميته وتجنب الأثر الكارثي للبطالة.
يسهم المجتمع في مشكلة البطالة بتوجيه أبنائه نحو الجامعات وكأنها الحل السحري للتوظيف وما علم أنه بذلك يزيد المشكلة فقامة وتعقيدا. هذا التوجيه المجتمعي يؤدي إلى ضغط على القبول في الجامعات لأنها هي الوعاء الوحيد من وجهة نظره لاستيعاب خريجي الثانوية، فنحن بحاجة إلى وعي مجتمعي حيث هو الآخر يلعب دوراً كبيراً في الحد من مشكلة البطالة وتفاقمها، فالبيئة الواعية بتخصصات المستقبل والدافعة إلى أقسامها المختلفة من خلال: ''كل مهيأ لما خلق له''، و''قيمة كل امرئ ما يحسنه''، تختصر الكثير من الجهود المبذولة في حل المشكلة، فالجامعات ليست مركزا لاستيعاب خريجي الثانوية العامة وكفى، وليست مضخة التوظيف، ولا مهمتها إخراج علماء وباحثين فقط، بل إن خريجي الثانوية في العالم كله يتجهون بنسبة بسيطة إلى الجامعات، وذلك حسب الميول والمعدل وبحسب معايير وتوجهات الدولة اقتصاديا وتنمويا، بينما يتجه الكثير منهم إلى الدبلومات الفنية التخصصية سواء في الحاسب الآلي أو الشبكات أو السكرتارية والمبيعات، أو غيرها من التخصصات التي لا تحتاج بالضرورة إلى الشهادة الجامعية وإنما تحتاج إلى مهارات فنية أكثر منها نظريات علمية.
في المقابل نجد أن الجامعات تسهم في البطالة بشكل مباشر وغير مباشر لأن الكثير من التخصصات في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية لا يحتاج إليها سوق العمل الحالي وليس لها مستقبل وظيفي، بل هي في الحقيقة عبء مادي وإداري على الدولة والجامعة، ولا سيما عندما تستوعب أعداداً هائلة من الطلاب؛ وتظل أبوابها مفتوحة دون الانتباه إلى أخطارها الوطنية وأضرارها المستقبلية، وحقيقة المشكلة تكمن في الطالب ضعيف المعدل الذي لا يساعده معدله على دخول الكليات العلمية وذات الطلب العالي في سوق العمل، فيلقى به في هذه التخصصات وكأنها مردم للاستيعاب دون أن نكلف أنفسنا عناء التفكير في آثارها القادمة على المجتمع من خلال تكدس خريجي هذه التخصصات وعدم حصولهم على العمل المناسب، وكثير من العاطلين الآن هم من خريجي التخصصات غير المرغوب فيها، لذلك أطالب المسؤولين المعنيين بالحد من القبول في هذه التخصصات، والعمل على استيعاب العدد المتناسب وأهميتها في الدراسة والمعرفة فقط. والبدء العاجل بإعادة هيكلة التخصصات الجامعية والتوجه نحو التخصصات ذات الطلب العالي في سوق العمل. فدعوتنا لإعادة النظر في التخصصات ضعيفة الطلب في سوق العمل وامتلاك الشجاعة المسؤولة لغلق بعضها مما لا يحتاج إليها سوق العمل وهي مكلفة ماديا على الدولة ضرورة تعليمية واجتماعية تستدعي العجلة التنفيذية للحد من نسب البطالة المتفاقمة ودعماً لبرامج التنمية القائمة على معارف ومهارات واتجاهات ذات طابع علمي وتقني ومهني، ليتمكن المخرج الجامعي وغيره ليس فقط من الحصول على فرصة العمل المناسبة وإنما القدرة على امتلاك وتكوين الفرص لآخرين، وهذه ليست مسؤولية الجامعة فحسب وإنما مسؤولية مشتركة مع القطاعات والوحدات الحكومية الأخرى.
عودا على بدء، إنني حينما أؤكد ضرورة التوجيه الرشيد لجيلنا القادم في توجهاته وتخصصاته إنما ذلك لقناعتي التامة بأن اليوم هو الوقت الأمثل لحل مشكلة الغد، وأن الاستيقاظ على تزاحم الآلاف على بضع وظائف لا ولن يعفينا من المسؤولية، فماذا سيستفيد الشاب من تخصص لا يحتاج إليه مستقبله؟ وماذا سيجني الوطن من تخصص لا يرتقي به؟ إن التوجه الصحيح في التصدي لمشكلة البطالة واقتلاعها من جذورها هي في تبني الحلول جميعها، الحالية والمستقبلية، والانطلاق فيها على ضوء دراسات وقياسات دورية متتابعة تبين مستوى الإنجاز والنتائج، فليست هي مشكلة المملكة فحسب، بل ثمة دول في العالم الأول تعانيها، ودول ربما تتوافق معنا إلى حد كبير في الأسباب والمؤثرات، لكنها تختلف في تعاملها مع المشكلة وتوجهها لحلها، ولقد وجدت عند الوقوف على تجارب الكثير منها توافقاً على أهمية التوجيه الرشيد نحو التخصصات الحديثة، والتدريب والتأهيل لسوق العمل، فقد أخذت الهند باتجاه تطوير التعليم الفني للعمالة، والتوسع في إنشاء معاهد التدريب وتنمية المهارات، واتجهت كوريا نحو رفع مستوى التوظيف من خلال إدارة فعالة لتحقيق الكفاءة في سوق العمل، بينما قامت ألمانيا التي كانت تعاني وجود 2.6 مليون عاطل عام 1999 بترشيد الإنفاق الحكومي وتشجيع إقامة شركات التوظيف، وذهبت بلجيكا إلى وضع برنامج طويل المدى للتوظيف، وتحقيق التوافق بين الوظائف الخالية والعمالة المعروضة في سوق العمل، كما اتجهت فنلندا إلى مواجهة البطالة من خلال تحسين الاستثمار، وإكساب العاطلين المهارات المطلوبة، إضافة إلى تنفيذ برامج التدريب التحويلي خاصة في مجالات الاتصالات والكهرباء والإلكترونيات.
فالتوجه نحو الدبلومات المهنية والحرفية هو توجه دول وحكومات، ونداؤنا لبذل المزيد من الجهود في هذا المجال والتشجيع عليه من خلال الحوافز والتسهيلات ليس من قبيل الترف النظري بل هو جزء مهم من مجموعة الحلول الجذرية لمشكلة البطالة المؤرقة، فآباؤنا وأجدادنا لم يكونوا إلا حرفيين ومزارعين وبنائين، وقد كان يطلق على المحترف منهم لقب (الأستاذ) فلم يكونوا يقتاتون أكلهم إلا بأيديهم، أما واقعنا اليوم فلا تجسده إلا نظرة واحدة إلى أنشطتنا الحرفية، وصناعاتنا الشخصية التي كنا نحن من يصنعها، واليوم يصنعها غيرنا ليبيعها لنا.
إن قيام جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية بواجبها في إعادة هيكلة التخصصات التعليمية والتوجه للتخصصات ذات الطلب في سوق العمل وقيام المجتمع بمسؤوليته الوطنية بتوجيه أبنائه نحو التخصصات العلمية والتقنية والمهنية خطوات مهمة وحلول أساسية في ظل التوجه الاستراتيجي الشامل للتصدي للمشكلة وإيجاد الحلول الجذرية التي تمكننا من سد الفجوة الحالية بين العرض والطلب، وإعادة المياه إلى مجاريها في مختلف زواياها.