الوجه الآخر المفقود «للعملة» التنموية في المملكة
يعتبر تحقيق التنمية الشاملة هدف الحراك البشري لكل مجتمع, فالتنمية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والمكانية، هي محصلة كل الجهود المبذولة والتراكم المعرفي والموارد المتوافرة والاكتشافات العملية.
وحيث إن كل مجتمع له إمكاناته وخصوصيته, فإن معدلات التنمية تختلف باختلاف المجتمعات، وباختلاف الجهود المبذولة للوصول إليها.
ومع أن العالم الآن يتجه إلى مفهوم المجتمع العالمي المتشابه, إلا أن بقاء الفوارق واختلاف الموارد والسياسات ستبقى عاملاً مهماً في تحديد مستوى التنمية لكل مجتمع. إن من يتابع التطور التاريخي لنمو المجتمعات والدول, خاصة خلال الـ 50 عاماً الماضية, يجد أن التنمية المكانية (أو الوجه الآخر لعملة التنمية الشاملة) أخذت مكانا ودورا في تطور المجتمع, فلم يعد الاكتفاء بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية (أو التنمية القطاعية) كافياً لاستثمار الموارد الاقتصادية للمجتمعات وما يتبعه من تحقيق العدالة التنموية اللازمة للوصول إلى الكفاءة والفاعلية التنموية, التي يعم خيرها الجميع, وبالتالي يتم القضاء على الفجوات أو المطبات التي تعوق التنمية وتجعلها عرجاء غير قادرة على المشي السليم.
لقد أصبحت مصطلحات التنمية الإقليمية المتوازنة وإعادة توزيع السكان على رقعة الدولة وأهمية وجود تسلس هرمي لمراكز النمو أمورا تتردد بشكل مستمر لدى المختصين والمعنيين بالتنمية, وكذلك في المؤتمرات الدولية المتخصصة.
وإذا نظرنا إلى مسيرة التنمية في المملكة نجد أنها من الناحية الشكلية سارت على هذا الطريق من حيث إعداد الدراسات والخطط المكانية؛ مثل المخططات الإقليمية للمناطق الـ 13 وتحديثها عدة مرات, وكذلك إعداد استراتيجية عمرانية وطنية تمثل الإطار الأعلى لعملية التنمية المكانية, إلا أن المنتج على أرض الواقع كان أقل كثيرا من المستهدف والمأمول, ولذلك أسباب كثيرة؛ منها ما يتعلق بالممارسة التخطيطية وآليات وأدوات التخطيط، مثل المركزية التخطيطية واقتصار دور المستهدفين على المشورة غير الملزمة, وكذلك هيمنة غير السعوديين على هذه المهنة، وتشابه الفكر التخطيطي الممارس لدرجة أن كثيرا من المخرجات تعد نسخا مكررة. يضاف إلى ما سبق عدم وضوح الصورة عن مسؤولية الجهات التخطيطية وازدواجية أدوارها, ومع أنه تجري محاولات مستمرة للتنسيق بينها إلا أن ذلك يقوم على قناعات فردية، ويتم أحيانا بشكل خجول لا يرقى إلى أهمية الموضوع وخطورة تضارب الآراء التخطيطية وخلقها حالة التباس, وبالتالي عدم قناعة لدى المستهدفين في المناطق والمحافظات والمحليات.
وعندما قامت القيادة السعودية بإنشاء مجالس المناطق رغبة في تحقيق هدفين أساسيين, على الأقل, هما إضافة الطابع المحلي للتنمية وزيادة مشاركة المواطنين, فإن ذلك اصطدم بواقع كبل عمل هذه المجالس, كان أقله أن رؤساء الدوائر الحكومية في المناطق لا يملكون القرار ويلتزمون بما يصدر عن جهاتهم المركزية وليس عما يصدره مجلس المنطقة, كما أن ارتباطهم الرسمي والحقيقي بالوزارات المركزية وليس بأمير المنطقة والمسؤول الأول عن تنميتها لدرجة أن بعضهم قد يواجه إحراجا في التوفيق بين الآراء المختلفة والمتعارضة.
إن هذا الواقع التنموي في المملكة يتطلب إعادة هيكلة حقيقية تقوم على ركائز من أهمها:
1 ـــ صياغة الفلسفة التخطيطية الرئيسة بحيث تعتمد على مبدأ أن التنمية الشاملة المستهدفة مثل العملة الواحدة ذات الوجهين, أحدهما قطاعي والآخر مكاني، وعكس ذلك في الاستراتيجيات والخطط التي تعتمد من القيادة السياسية, وأن يكون ذلك بشكل واضح وبنفس الوقت والأهمية, وبالتالي تحظى بالمتابعة والتحديث والتقويم نفسها.
2 ـــ تحديد الجهات المسؤولة عن التخطيط بشقيه بكل وضوح والقضاء على الازدواجية القائمه الآن.
3 ـــ إعطاء دور أكبر للمحليات للمشاركة في إعداد الاستراتيجيات والخطط الخاصة بهم.
4 ـــ فك الاشتباك الحاصل في مرجعية المسؤولين في المناطق وربطهم بشكل واضح وصريح بأمراء المناطق وأن يكونوا مرجعهم الوحيد بدلا من الازدواجية المحرجة الحاصلة الآن.
5 ـــ تطوير وتفعيل التقويم والمتابعة لتنفيذ الخطط.
ماذا لو
ماذا لو تمت إعادة هيكلة وزارة الشؤون البلدية والقروية بحيث تصبح وزارة للتنمية الإقليمية والتخطيط المكاني وترك أمر الشؤون البلدية وإدارة الأرض والقضايا اليومية للمحليات, لكان في ذلك توفير للجهد والمال والوقت، ولارتاح المواطنون من عناء السفر والمراجعة لأمور ينطبق عليها المثل ''أهل مكة أدرى بشعابها''.