السعودة وصناعة الثروة (1)
إن من أهم الركائز الأساسية في تقدم الدول ورفاه الشعوب هو الاستثمار في رأس المال البشري ووضع التنمية البشرية في أولوية القضايا والمهام التي تعنى بها، فالعالم يشهد يوما بعد يوم تغيرات متلاحقة، ومستجدات متتابعة في مناحي الحياة العديدة والمتنوعة.
ومنذ وقت طويل وخبراء الاقتصاد والتنمية والإدارة ينادون بأهمية تنمية رأس المال البشري، ودوره الفاعل في نهضة الدول والمجتمعات حتى وإن كلف ذلك مالا وجهدا مضاعفا في التعليم والتدريب والتطوير المتنوع لهذا العنصر الأساس فقد ذكر ''آدم سميث'' في كتابه الشهير ''ثروة الأمم'' أن اكتساب القدرة أثناء التعلم يكلف نفقات مالية، ومع ذلك تعد هذه المواهب جزءا مهما من ثروة الفرد التي تشكل بدورها جزءا رئيسيا من ثروة المجتمع الذي ينتمي إليه. فرأس المال الذي يستثمر في الإنسان، هو في الحقيقة طريق تقدم الأمم، وسبيل الرقي للمجتمعات فمن خلال القوى البشرية الواعية والمتمكنة والمؤثرة يزدهر الاقتصاد وتحول الثروات من كميات إلى طاقات تكنولوجية متنوعة تحقق التقدم المنشود وتتناغم ومستجدات العصر الطارئة.
إن دولاً مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من دول جنوب شرق آسيا حققت معدلات اقتصادية عالية، وتخطت حاجز التخلف إلى مكانة متقدمة بين دول العالم بفضل ما لديها استراتيجيات واضحة المعالم واستثمارات في الموارد البشرية حرصت على تأهيلها وتنمية مهاراتها وقدراتها لتسهم في بناء نهضتها الاقتصادية. إن الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والأمنية تعد ركائز محورية للتنمية والازدهار وتدعو إلى ضرورة الاهتمام بالموارد البشرية الوطنية وتنميتها ودمجها في مجتمعها لتكوين المواطن العامل المنتج لتحقيق التنمية الشاملة الحضارية والبشرية والاقتصادية المنشودة.
وحين يكون الحديث عن خليجنا العربي تخذلني لغتي ولا تسعفني حروفها في الحديث عنها في مجال التنمية البشرية، وهي التي تمتلك احتياطا نفطيا واقتصاديات مالية كبيرة ومؤثرة، ونسبة غير قليلة من مواطنيها بلا وظائف أو يشغلون وظائف متوسطة المستوى ومتدنية الدخل بعكس ما يفترض أن يكون مطلوباً ومأمولاً، بل إن عدد الموظفين الأجانب في بعض دول الخليج يفوق أضعاف عدد السكان، ولدينا في المملكة ـــ وهي ما سنركز عليها ـــ عدد الأجانب الذين يشغلون وظائف متنوعة نحو ثمانية ملايين عامل أجنبي أي ما يقارب نصف عدد السكان، ولا نريد من يأتي ويبرر هذا الرقم بأنهم ممن يشغلون الأعمال أو المهن لا يرغب السعودي في العمل فيها، لأن هذا تبرير لا يرتقي إلى أن يسمع له، فنحن حينما نبرر الخطيئة بخطيئة مثلها نرسخ بها قاعدة خاطئة نستمر فيها في حياتنا العملية تؤدي إلى هدم مجتمعنا، إن هناك وظائف كثيرة لا تتطلب الشهادة أو الخبرة العالية ومع ذلك تجدنا نعاني البطالة ونحذر من تفاقمها. إن نسبا كبيرة من الأجانب في وظائف قيادية وإدارية دخلها عال جدا نجد أن أغلبها محجوبة عن السعوديين ومشغولة بأبناء العمومة والحارة والضيعة وزملاء الدراسة وهي وظائف يمكن أن تشغر بكفاءات وطنية متميزة.
التنمية البشرية والتوظيف يعتمدان أساسا على اقتصاديات العرض والطلب ويتشكل العرض في التنمية البشرية والتوظيف في المملكة من مخرجات التعليم (الجامعي وما دونه) ومن مخرجات التعليم التقني والفني ومن العمالة الوافدة، بينما يأتي الطلب من الشركات والحكومة من خلال الأسواق والمنتجات القائمة والجديدة أو التوسع فيهما ومن خلال النمو والإحلال الوظيفي (التقاعد والوفاة) أو مجالات تنموية جديدة. وتشكل العمالة الوافدة جزءا كبيرا في منظومة التوظيف والقوى البشرية في المملكة وبالذات من شرق القارة الآسيوية (الهند وباكستان وبنجلادش والفلبين) ومن الدول العربية (مصر والأردن). كما تتمركز الحاجة في تجارة التجزئة وفي الصناعة والمقاولات والخدمات والأرقام والإحصائيات مفزعة في هذا المضمار.
فأين الحل إذا؟
كتبت قبل أكثر من ثماني سنوات عددا من المقالات في ''الاقتصادية'' عن السعودية وهمومها. أضع بين يديك عزيزي القارئ مقتطفات منها.
((... السعودة كلمة جميلة رنانة وهدف سام نبيل نرددها في كل محفل وتشعل الحماس في قلوب الغيورين على وطنهم من مسؤولين ورجال أعمال.. فهي تحمل مشاعر كل مسؤول في القطاعين الحكومي والخاص وكذلك المواطنين الباحثين عن عمل وأسرهم. وحينما توضع هذه الكلمة على المحك يصيبها نوع من الفتور وتقل عزيمة تطبيقها وبالتالي نبدأ بالإحساس أن هناك مؤامرة أو عدم إحساس بالوطنية أو... أو... أو... إلخ. والحقيقة أن الموضوع متشابك ومتداخل لدرجة التعقيد...
... تطبيق السعودة أو ما يعرف بالإحلال الوظيفي الوطني في القطاع الخاص يشوبه نوع من الغموض نوع من التهرب واختلاق الأعذار المبرر منها وغير المبرر. والواقع ـــ بعيداً عن العاطفة ـــ أن هناك عناصر يجب توافرها إذا ما أردنا الإحلال السليم للكوادر الوطنية بحيث لا ضرر ولا ضرار. من هذه العناصر جاهزية الفرد الباحث عن عمل، ملاءمة مخرجات التعليم مع حاجة سوق العمل، الرغبة في الإحلال من جانب المنشأة، وأخيرا والوطنية والمواطنة وهي الأهم...
... فالشركات ليست دار عجزة ولا ملجأ للأيتام ولكنها يجب أن تكون مؤسسات تنموية وجمعيات تعاونية...
... إن زيادة الحس الوطني والشعور بتفاقم المشكلة أساس لبدء إيجاد حلول لهذه الظاهرة المتفاقمة المقلقة والتي تزداد يوماً بعد يوم ولن يتم تطبيق السعودة إلا بوجود رجل يعرف المشكلة جيداً ويعرف أبعادها الاجتماعية والأمنية لأنه هو الشخص القادر على فرض ذلك بتوازن وذلك بتطبيقه قاعدة لا ضرر ولا ضرار. لا ضرر عليك يا صاحب المنشأة ولا ضرار عليك يا طالب العمل ولا على المجتمع...
فأين الحل إذاً؟
إنني لا أتهم أحداً وليس هذا وقته ولا أتكلم في الماضي وليس هذا مقامه ولكنني أدعو إلى إنشاء هيئة عليا للتنمية البشرية، تعمل جادة وفق معايير عالمية وأسس علمية واستراتيجيات ورؤى واضحة المعالم لتهيئة وتكوين وبناء وتوطين رأس المال البشري السعودي في القطاع التجاري بكافة شرائحه (صناعي وزراعي ومالي وخدمي) ليكون رافدا تنمويا قويا لمؤسساتنا وقطاعاتنا واقتصادنا الوطني، وأحسب أن كثيرا من الجهات ذات العلاقة لم تؤدِ دورها المنشود والمنوط بها والمؤمل منها على الوجه المطلوب. إن تداخل الأدوار وضياع المسؤوليات وعدم وضوح الصلاحيات والتنصل منها أمر وارد في ظل عدم وجود جهة تتولى قيادة سفينة التنمية البشرية لبر الأمان وذلك من خلال التخطيط السليم ووضع الصلاحيات وتوزيع المسؤوليات والقيام بالتنسيق والتوجيه... للحديث بقية.
وقفة صدق وتأمل
يا تجارنا الأعزاء.. إن الأمر خطير جدا يحتاج منكم إلى وقفة تأمل وإعادة النظر في سياسات التوظيف والنظر لمصلحة الوطن وأبنائه. إن رفاهية المواطن ليست مسؤولية الدولة وحدها بل أنتم فيها شركاء.