رد الاعتبار لمفهوم المدينة .. الرياض وجدة والدمام نموذجا

تمثل المدينة قمة الهرم في تطور واستقرار المجتمع البشري, الذي مر بمراحل عدة حتى وصل إلى ما نشهده اليوم من هيمنة المدن الكبرى, التي أصبحت الهدف المنشود والحلم الكبير لمعظم السكان, مع وجود استثناءات لذلك, بالذات لدى الأشخاص ممن يرون في حياة المدن الصغيرة أو القرى راحة بال وتصالح مع النفس، وبعد عن الضغوط النفسية والقلق اليومي للحياة المتسارعة. وقد ننظر إلى المدن الكبيرة على أنها المكان الذي يوفر لساكنيه التنوع الحياتي في الجوانب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية, وبالتالي زيادة الرفاهية وتحسن المستوى المعيشي. ونمو المدن خلال القرن العشرين أدى إلى بروز أدبيات علمية سواء من حيث تطوير النظريات العلمية أو الممارسة الفعلية التنفيذية. وهذا الاهتمام جاء بعد المشكلات التي ترتبت على ضخ الأنشطة إلى مدن قائمة للوصول بها إلى ما يتوافق ومصطلح المدن الكبرى, ما قاد في كثير من دول العالم إلى هجرة سكانية متسارعة أدت إلى وجود مدينة كبرى على الأقل في كل دولة كان يفتخر بها السياسيون والعمرانيون على حد سواء, إلا أن (دوام الحال محال) كما يقال, فظهر كثير من المشكلات التي دقت ناقوس الخطر لإعادة النظر في هذا التوجه، وعلت أصوات المفكرين والمخططين تطالب بإيجاد الحلول لما أفرزته المدن الكبرى من مشكلات ومساوئ.
عند التمعن في التجربة السعودية نجد أنها, إلى حد كبير, سارت في هذا الاتجاه, وهو أمر طبيعي لأن المملكة جزء من هذا العالم, كما أن القيادة كانت وما زالت تعمل على تحديث المجتمع وعدم تخلفه عن الركب الإنساني العالمي, وبالتالي تسارعت التنمية العمرانية في المملكة وتوسعت المدن وظهر بشكل واضح ما يعرف بالمدن الكبرى, حيث وصلت كل من مدن: الرياض, جدة, وحاضرة الدمام إلى مستويات كبيرة من حيث عدد السكان والتوسع العمراني, وهي تستوعب نحو 60 في المائة من السكان. كما أنه لم يعد خافيا أو سرا ما تعانيه مدننا الكبرى من ترهل ومشكلات بيئية واجتماعية ممثلة في التلوث الهوائي والصوتي والبصري وازدحام خانق وارتفاع معدلات ونوعية الجرائم وتفكك اجتماعي وارتفاع لتكاليف المعيشة. ولعل من ينظر فقط إلى معاناة الناس في إيصال أبنائهم إلى المدارس يعرف إلى أي مدى وصلت نوعية الحياة في مدننا بصفة عامة والمدن الكبرى بصفة خاصة. ومع تقديرنا واعترافنا بما يبذل من جهود في مدننا الرئيسة الثلاث من أجل معالجة مشكلاتها, إلا أن الحاجة أصبحت ماسة إلى جهود مضاعفة وحلول مؤلمة تنبع من استراتيجيات وأهداف واضحة تضع لكل مدينة قائمة سلبية تتم معالجتها, وليس بالضرورة أن تشمل هذه القائمة كل المشكلات, بل إن الاكتفاء بمشكلة أو مشكلتين كل فترة زمنية هو الحل الأمثل. ولعلنا في هذا المجال نسترجع ما قام به عمدة مدينة نيويورك جولياني عندما تسلم مهام المدينة, حيث وضع مكافحة الجريمة هدفا لبرنامج عمله وحوّل نيويورك من مدينة جريمة ورعب إلى مدينة متألقة يرغب الكثير في الاستقرار فيها أو على الأقل زيارتها.
ومشاركة لمتخذي القرار في إعادة مدننا الكبرى إلى المفهوم والدور المناسب لها وإيجاد مناخ جيد يحقق العيش المطلوب فيها، فإن الحاجة ماسة إلى القيام ببعض الخطوات المتمثلة فيما يلي:
1 ـــ تحديد الدور الوظيفي لكل مدينة وبشكل واضح يفهمه ويلتزم به الجميع فليس من الممكن أن تحتوي كل مدينة جميع الأنشطة وتصبح كما يقال (عباس على دباس) أو كما يقال (سمك لبن تمر هندي). وفي هذا المجال أرى, وقد أكون مخطئا, أن تكون الرياض مدينة إدارية، وجدة مدينة تجارية، وحاضرة الدمام مركز صناعة البترول، يدخل في ذلك مراكز البحوث والتدريب وغيرها من أنشطة مرتبطة بالبترول وصناعته. إن الأخذ بهذا التوجه يتطلب البدء بالتخلص من الأنشطة غير المتوافقة مع الدور الوظيفي المحدد وإعادة توزيع ما هو غير مناسب, وكذلك توجيه الأنشطة الجديدة إلى المدن المناسبة.
2 ـــ الأخذ بمبدأ المناطق أو الأماكن المخصصة لنشاط معين, أو ما يعرفه المخططون بـ (الزون), ففي تخطيط المدن هناك حاجة إلى فصل الاستعمالات بشكل واضح والقضاء على التداخلات الحاصلة الآن لدرجة أن من يمشي في شوارعنا يصاب بالحيرة, هل هو في حي سكني أو في منطقة تجارية أو في خدمات صناعية أو منطقة تعليمية أو صحية!
3 ـــ إلزام الشركات والمؤسسات بإسكان عمالها, وبالتالي القضاء على هذه الهجرة اليومية التي نشهدها بين أجزاء المدن, حيث غالبا ما يسكنون بصفة فردية في الأحياء القديمة المتدهورة عمرانيا ويعملون في مواقع أخرى من المدن التي تتوافر فيها الأعمال والأنشطة. ومما يفاقم مشكلات المدن، الاتجاه للسكن الفردي, فهذا التوجه يترتب عليه الاضطرار لاستخدام السيارة, ما يؤدي إلى كثافة مرورية وازدحام قاتل يعانيه الجميع, ولا يخفى ذلك على المعنيين.
4 ـــ إيقاف التوسع الأفقي للمدن الذي أوصلنا إلى هذه المدن الشاسعة المساحة المترامية الأطراف. إن ذلك يترابط مع ضرورة إعادة النظر في الحد المسموح للارتفاعات والكثافة السكانية.
5 ـــ تطبيق المفاهيم الحديثة لإدارة حركة المرور مثل الاتجاهات المتغيرة لحركة السير في الشوارع وقت الذروة ومنع الوقوف الرأسي للسيارات في الشوارع وتحصيل رسوم الوقوف الوقتية من قبل البلديات.
...
ماذا لو:
ماذا لو تمت إعادة تنظيم ساعات العمل بحيث تكون المدارس من (ثماني ونص) إلى (أربع ونص) والموظفون من (تسع إلى أربع), ما يتيح للأغلبية إيصال أبنائهم للمدارس بدلا من المعاناة والتكاليف المالية التي يدفعها الفرد والمجتمع الآن.
دعونا نفتح النقاش حول هذا الموضوع وسوف نكتشف أننا إزاء قضية من أهم قضايا المجتمع السعودي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي