السكن والمساكن.. وجهة نظر أخرى
المتأمل في اقتصاديات التنمية يجد أنها مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالقوة الاقتصادية للدولة وبالتالي يتكئ الدخل المحلي على هذه التنمية إن إيجاباً أو سلباً بحسب قوة الشراء أو ضعفه، ولو أعدنا النظر إلى سابق عهدنا لوجدنا أن الطفرة الاقتصادية الأولى التي شهدتها المملكة وانتهت في الثمانينيات الميلادية أثرت بشكل مباشر وإيجابي في التنمية الاقتصادية المحلية، وقد تجلى ذلك من خلال البنية التحتية الأساسية والمنشآت التنموية المتعددة، كما امتدت لتلمس بأثرها الإيجابي المواطنين من خلال النمو العمراني الذي شهدته المملكة في تلك الفترة ونجد أن أثرها كان في فئة التجار والاقتصاديين أكثر، كل ذلك لأن الاقتصاد والبترول وتنوع مصادر الدخل المحلي تؤثر تأثيراً مباشراً في مناحي وقطاعات وطنية مختلفة لتشهد نمواً غير مسبوق شمل مناطق المملكة كافة وبشكل عام استفادت منه فئة عملت في التنمية وكانت جزءا من منفذيها.
لا نريد أن نكرر الحديث عن الدور الاقتصادي الذي كان له تأثير كبير في نمو الوطن وازدهاره، لكننا سوف نركز في مقالنا هذا على التنمية العمرانية، لو أعدنا النظر إلى العاصمة الرياض قبل 50 عاماً، لوجدناها مدينة صغيرة المساحة، محدودة المعالم، الجميع معروف أما اليوم فإن الناظر إليها يجد فيها توسعاً عمرانياً هائلاً، أفقياً بشكل واسع ومنتشر ورأسيا بشكل محدود جدا، كما أنه يجد نهضة تنموية مختلفة وبالتالي حينما تنظر إليها نظرة جوية (من علو) ستذهلك مساحتها العمرانية الواسعة لتدرك ومن الوهلة الأولى كثافة الهجرة الداخلية إليها وكثافة التنمية فيها، وكثافة الاستثمارات العقارية في أراضيها. وفي السياق نفسه لو نظرنا إلى مدينة جدة كإحدى المدن الرئيسية لوجدنا فيها نهضة عمرانية مشابهة، بل إنها قبل عشر سنوات فقط زادت رقعتها العمرانية فانتشرت فيها مخططات عمرانية كبيرة استحدثت ووحدات سكنية كثيرة شيدت وتحديداً في شرقها، وإن الكثير من هذا النمو العمراني هو نمو أفقي وإن كان النمو رأسيا في جدة أكثر منه في الرياض. من المؤكد أننا نشهد تنمية عمرانية واضحة ولكن السؤال من يملك تلك المساكن وما نسبة تملك الأسر والمواطنين والشباب فيها؟ أم أن تلك الوحدات استثمارات عقارية تملكها شركات ورؤوس أموال استثمارية تؤجرها وتبيعها للمواطنين. في آخر إحصائية تعداد للمملكة، نجد أن الشباب يشكلون أغلبية السكان لتطفو على السطح أزمة الإسكان كقضية وطنية تحتاج إلى حلول عاجلة، ومشكلة مجتمعية تنذر بخطر قادم. إننا بحاجة لمعرفة قوة المواطن الشرائية لتك المنازل ونسبة من يملك منزلا من الأسر السعودية. ولكي نجد للسكن حلا في المملكة سننظر إليها من زاوية مختلفة.
إن مشكلة الإسكان في عالمنا العربي مشكلة كبيرة جداً وتمثل تحدياً حقيقيا لتلك الحكومات والدول التي فوجئت بها اليوم وقد خرجت عن الطوق وتفاقمت أكثر من المتوقع في ظل الانفجار السكاني الكبير، وتململ الشعوب من تفاقمها. وهذه المشكلة الإسكانية في بلداننا النامية ما كانت لتحدث لولا الحلول الآنية والمؤقتة التي تتخذ، وعدم استشراف المستقبل في خططتها الاستراتيجية، ورؤيتها بعيدة المدى في مشاريعها التنموية والاقتصادية.
وبالاطلاع على الإحصائيات والدراسات نجد في المملكة العربية السعودية ـــ ونحن ولله الحمد دولة غنية وذات اقتصاد عالمي متميز ومؤثرة ـــ أن ما نسبته 60 في المائة من المواطنين لا يملكون مساكن وهذا على أقل تقدير طبعا وإلا فربما زادت هذه الإحصائية إلى 70 في المائة من إجمالي عدد السكان، حيث تقدر شركات عقارية أن 30 في المائة فحسب من السعوديين يمتلكون مساكنهم. كما أن 70 في المائة من الإدارات الحكومية لدينا مبانيها مستأجرة.
والتركيبة السكانية هي مكمن جذور المشكلة في بلادنا حيث تشهد نمواً كبيراً، وارتفاعاً ملحوظاً في عدد السكان فبالإضافة إلى أكثر من ثمانية ملايين نسمة من العمالة الوافدة زاد عدد سكان المملكة نحو 20 في المائة ليصل اليوم إلى ما يقرب من 28 مليون نسمة تقريبا، ووفقا لبيانات رسمية، فإن عدد المواليد سنوياً يصل إلى 450 ألف مولود، مما يعني أن يزيد عدد السكان 2.5 مليون نسمة كل خمسة أعوام الأمر الذي سيفاقم المشكلة ويضاعف من تبعاتها.
وقد أكدت الدراسات والإحصاءات أن الشباب يمثلون أكثر من 50 في المائة من السكان، كما أكد تقرير صدر أخيرا عن البنك الأهلي التجاري أن النمو السكاني السريع والعدد الضخم للشبان السعوديين الذين تقل أعمار ثلثيهم عن 30 عاما ''يمثلان ضغطا هائلا على البنية التحتية للبلاد''. والمشكلة في حقيقتها هي أن عدد المساكن لا يكفي، ونحتاج إلى مليون وحدة سكنية وهو عدد يرتفع بنحو 150 ألف وحدة سنويا وفقا لما يقوله الاقتصاديون.
وإذا ما بحثنا عن السبب وراء هكذا مشكلة فإننا سنرجع ذلك وبسرعة إلى الارتفاع الحاد في أسعار الأراضي (لماذا سوف نفرد لها مساحة) وبالتالي ارتفاع قيمة الوحدات السكنية المتاحة، حيث يقدر خبراء أن سعر الأرض يمثل الآن 60 في المائة من إجمالي تكلفة المنزل العادي الذي يبلغ متوسط قيمته 800 ألف ريال، الأمر الذي يجعله بعيدا عن متناول ذوي الدخل المتوسط والمحدود.
وبالرغم من المطالبات المستمرة بحلول جذرية وفعلية لهذه المعضلة السكانية، إلا أن مشكلة الإسكان لم تتحرك عن مكانها بعد وإن كان ثمة من حلول فهي آنية وغير جذرية، فمن يراها أنها مشكلة خاصة بالمحتاجين وذوي الدخل المحدود والأرامل والمطلقات، وآخر يرى أنها مشكلة توفير مساكن للإيجار حيث الشح الواضح والطلب المرتفع في هذا الجانب.. وحتى نمسك بالخيوط الصحيحة لنصل إلى الحلول الفعلية لا بد أن تكون نظرتنا شاملة ومتوازنة حتى نتمكن من مواجهة نمو سكاني هو الأول عالمياً.
وإذا أردنا أن نعالج هذه المشكلة فمن المهم أن نساهم بفعالية في حل جميع المشكلات المتعلقة بها، حيث لا يكمن الحل في توزيع المساحات للفقراء أو بناء المساكن للمحتاجين فقط، وإنما من وجهة نظري في فتح الطريق السهل والميسر أمام الناس لامتلاك منازلهم الخاصة من جهة، وهذا يستدعي حضورا فاعلاً لعدد من الجهات الحكومية والأهلية البعيدة عن الذات التي ترغب في المساهمة الفاعلة في التنمية ذات الشأن لإفراز حلول عاجلة تعمل على كبح ارتفاع الإيجارات التي تشق جيوب الأسر، وترهق المواطن المحتاج إلى حد كبير، وحسب إحصائيات حديثة، فإنه ينفق على السكن ما نسبته ثلثا دخله، ويأتي هذا في وقت يشهد الوضع عدم اتزان بين ارتفاع الإيجارات وتمليك الوحدات السكنية، ومن جهة أخرى ثبات أو ارتفاع غير متناسب في أجور العاملين في القطاعين العام والخاص. كما أننا بحاجة إلى تغيير ثقافة السكن وبناء المساكن لدى السعوديين، حيث إننا نحتاج إلى الانتقال من المساكن الأفقية إلى المساكن العمودية بشكل ملحوظ أو بزيادة في المساكن الأفقية أكثر مما هو موجود الآن وهي تتطلب توعية وإرشادا وتوجيها للمواطن والشركات مع تنظيمات محفزة وموجهة.. للحديث تتمة.