العلاقات التايلاندية ـ الكمبودية.. القومية والسيادة و«الأراضي المفقودة»

وفقا لقول مأثور في تايلاند، ''يمكنك اختيار أصدقائك ولكنك لا تستطيع اختيار جيرانك''. وينطبق هذا بصفة بديهية على العلاقات التايلاندية ـــ الكمبودية ففي الأزمة الأخيرة التي اندلعت قبل بضعة أسابيع، تم اعتقال سبعة تايلانديين واتهامهم بالتعدي على الأراضي الكمبودية . وأدى الحادث إلى تفاقم العلاقات الثنائية السيئة التي كانت قد بدأت بالتحسين قبل الحادث. وفي حين دانت تايلاند عملية الاعتقال بأنها ذات دوافع سياسية، فإن فنوم بنه مقتنعة بأن الدخول غير المشروع لم يكن من قبيل المصادفة.
ويعود السبب في ذلك إلى أنه من بين أولئك الذين تم اعتقالهم هناك أعضاء من شبكة الوطنيين التايلانديين، وهي مجموعة منشقة عن تحالف الشعب من أجل الديمقراطية ذوي القمصان الصفر. وقد شن تحالف الشعب من أجل الديمقراطية حملة ضد كمبوديا عام 2008م على أساس النزاع الحدودي على منطقة بمساحة 4.6 كيلومتر مربع تحيط بمعبد برياه فيهيار. وفي الواقع، في الأسبوع الماضي فقط، تعهدت طائفة سانتي أسوكي من مذهب ثيرافادا للديانة البوذية في تايلاند بقيادة ''احتجاج جديد'' للضغط على حكومة أبهيسيت فيجاجيفا لتشديد موقفها تجاه جارتها الكمبودية. وليس من المستغرب أن يكون للطائفة انتماءات وثيقة مع تحالف الشعب من أجل الديمقراطية وتنضم الآن إلى شبكة الوطنيين التايلانديين في إثارة القومية التايلاندية ضد كمبوديا.
ولتأجيج شعلة القومية، تستغل كل من طائفة سانتي أسوكي وشبكة الوطنيين التايلانديين موضوع الأراضي المفقودة. وقد أعلن سامانا فوتيراك، زعيم سانتي أسوكي: ''القضية الحقيقية هي خسارة الأرض. إنها مشكلة وطنية. لا يمكننا أن نقبل الطريقة التي تدير بها الحكومة الأمور. ولا يستطيع أتباع سانتي أسوكي السماح للحكومة بالاستمرار فيما تفعله ويرون الأراضي التايلاندية وهي تخضع للاحتلال بالتدريج''.
وبإلقاء نظرة فاحصة نجد أن موضوع الأراضي المفقودة الذي تروج له سانتي أسوكي وشبكة الوطنيين التايلانديين مبني على ذكريات ملفقة للتايلانديين بتعرضهم لسرقة أراضيهم من قبل الكمبوديين الأشرار. وفي الواقع، فإن موضوع الأراضي المفقودة ليس اختراعا جديدا فالدول في جميع أنحاء العالم تزعم أنها خسرت بعض أراضيها ظلما لقوى أجنبية أو جيران لا يتحلون بالأخلاق. والأبرز من بينها كمبوديا نفسها. وفي الواقع، قدم المؤرخ التايلاندي ثونغتشاي وينيتشاكول حجة ''الأراضي المفقودة'' من قبل دول جنوب شرق آسيا لتأكيد الشرعيات السياسية في الداخل.
وقد تحسر الوطنيون في لاوس على فقدان إيسان (منطقة في الشمال الشرقي) لمصلحة تايلاند. وحزب الخمير تطارده ذكريات وطنية عن الشيطانين المفترسين فيتنام وتايلاند. وفقدت تايلاند أيضا أراضيها المزعومة للبريطانيين والفرنسيين في أعقاب الاستعمار. وخلال ذلك الوقت، تم وضع خرائط جديدة لتبرير المطالبة التايلاندية بالأراضي المفقودة. وقد كان فقدان الأراضي يتم تصويره بصورة منهجية بأثر رجعي كما لو أن سيام، الاسم السابق لتايلاند، كانت في الأصل مملكة ذات سيادة قائمة على حدود دقيقة. وتم إدراج هذا التاريخ المعاد صنعه في مناهج التعليم التايلاندية ويتم ترسيخه بقوة في أذهان جميع التايلانديين.
وبالتالي، فإن أسطورة الأراضي المفقودة قوية للغاية وحية في أذهان كثير من التايلانديين. وقد أقنعت الذكريات الزائفة وتزايد القلق الوطني المتشكك الوطنيين التايلانديين بأن الدولة ستخسر سيادتها على المناطق المحيطة بسبب جشع كمبوديا والإجراءات غير الحاسمة لحكومة أبهيسيت.
وأعلنت طائفة سانتي أسوكي نفسها مدافعة عن السيادة التايلاندية، وأرسلت المئات من المخلصين الحفاة إلى معسكر خارج مقر الحكومة، وهددت بالدعوة إلى دعم آلاف آخرين لما يمكن أن يكون حملة طويلة. وأهداف سانتي أسوكي وشبكة الوطنيين التايلانديين واضحة: الأمر لا يتعلق فقط بإنقاذ المواطنين التايلانديين من سجن فنوم بنه، بل أيضا بنشر الوعي بين المواطنين عن القضايا الحدودية المثيرة للجدل.
وفي الحادي والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011م، حكمت كمبوديا أن التايلانديين الخمسة دخلوا عمدا إلى كمبوديا دون إذن. وتم الحكم عليهم بالسجن لمدة تسعة أشهر ودفع غرامة مالية بقيمة مليون ريال (نحو 325 دولاراً أمريكياً). وبما أن التايلانديين الخمسة أمضوا شهرا واحدا حتى الآن في السجن، علقت المحكمة الكمبودية فترة السجن المتبقية البالغة ثمانية أشهر- وهي حركة تعكس استعداد كمبوديا لتهدئة العاصفة السياسية. وتم في النهاية إطلاق سراح التايلانديين الخمسة وإعادتهم إلى الوطن. وأحد أولئك الذين تم إطلاق سراحهم، بانيش فيكيتسريث، هو عضو في الحزب الديمقراطي الحاكم. والشخصان التايلانديان الآخران اللذان لا يزالان رهن الاحتجاز هما ناشطان من القمصان الصفر، فيرا سومكوامكيد وسكرتيره راتري بيباتانابيبون. وهما يواجهان اتهامات إضافية بالتجسس.
وكما ورد في وسائل الإعلام التايلاندية، زعمت سانتي أسوكي أن مطالبتها بإطلاق سراح المحتجزين التايلانديين تستند إلى التعاطف والوطنية مع الأفراد الذين يتشاركون في مصير متشابه. وتأثر بعض أعضاء الطائفة بشكل مباشر بالنزاعات الحدودية بما أنهم يقيمون في محافظات متاخمة لكمبوديا.
ومع ذلك، أصر فوتيراك على أنه على الرغم من التشارك في الأهداف نفسها، إلا أن كلاً من سانتي أسوكي وشبكة الوطنيين التايلانديين تتبنى نهجاً مختلفاً فطائفة سانتي أسوكي لا تعتبر نفسها جماعة من الغوغاء أو مجموعة ضغط، كما يؤكد. ''إنها ليست جماعة من الغوغاء. إنها عفيفة ونقية. وهي مسالمة ومهذبة. وتلتزم بالأهداف وتقدم الحقيقة وتتبادل المعرفة. ولا تركز على الكمية''.
ولا تزال العلاقات التايلاندية ـــ الكمبودية مضطربة بصورة خطرة. وفي حين أن النزاعات الحالية بين الدولتين نابعة من موروثات التاريخ، ولكن تمت إثارتها ثانية لخدمة أغراض سياسية. واستخدام القومية، خاصة من جانب سانتي أسوكي، خطر للغاية لأنها ضخت الدين في النزاع السياسي. وفي النهاية، تدين كل من تايلاند وكمبوديا مذهب الديانة البوذية نفسه.
وبما أن الأحداث الدرامية الأخيرة هي نتيجة لعبة سياسية، فهي بحاجة إلى حل سياسي. ويجد الدبلوماسيون من كلا الجانبين أنفسهم مقيدين بسبب الظروف السياسية المختلفة. وإذا استمرت سانتي أسوكي وشبكة الوطنيين التايلانديين في استفزاز قوميتهم، فإن هذا سيزيد من تفاقم الوضع الهش أصلا. وإذا كان ما يريدونه هو الحرب، لا شك أن القومية ستساعدهم على تحقيق رغبتهم.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: opinion Asia

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي