ما يمكن استلهامه من سيرة النمر الكوري لإيقاظ الفرس العربي
بيوتنا العربية من الخليج إلى المحيط لا تخلو من أجهزة ''إل جي''، أو ''سامسونج''، وهدير سيارات ''هيونداي'' لا ينقطع عن شوارعنا، وهناك الكثير مما نستهلكه وتصنعه كوريا الجنوبية التي كانت متردية الحال قبل نصف قرن من الزمن.
كانت كوريا الجنوبية قبل التقسيم مستعمرة تحكمها اليابان طيلة 35 عاما (1910م - عام 1945م). وبعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، سيطرت القوات الأمريكية على الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية فيما سيطرت القوات السوفياتية على الجزء الشمالي. جرت فيما بعد محاولات عديدة لإجراء انتخابات حرة في كوريا عام 1948م إلا أنها فشلت مما عمق الخلافات بين الجارتين، وأحبط مساعي توحيد الشطرين، ثم نشبت الحرب الكورية في عام 1950م التي لم تضع أوزارها إلا عام 1953م.
ذاك كان حالها سياسيا، أما اقتصاديا، فقد كانت كوريا الجنوبية، شحيحة الموارد، محدودة الدخل. فعلى سبيل المثال، كان معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد في كوريا الجنوبية عام 1957م أقل بكثير من دولة إفريقية فقيرة مثل ''غانا''. نهض ذلك ''النمر'' من ركام الدمار والحروب منذ ستينيات القرن الماضي، وعقد العزم على الإصلاح والتطوير، ولا يزال ماضيا في تنميته الاقتصادية.
لقد كانت الأرض، والأيدي العاملة، ورأس المال مقومات الإنتاج التي اعتمد عليها الاقتصاد الزراعي طيلة القرن التاسع عشر. وكان ذلك الاقتصاد محركا لاستحداث فرص العمل للبشر، وواصل الاقتصاد الصناعي خلال القرن العشرين الاعتماد على تلك المقومات الثلاثة مضافا إليها المواد الخام. أما القرن الـ21 (قرن الاقتصاد المعرفي) فقد اختلفت فيه مقومات الإنتاج، وأصبحت المعرفة والإبداع هما الأساس. وبالتالي، انتقل رزق البشر من باطن الأرض الذي ينضب إلى باطن العقول التي لا تنضب.
إن الاقتصاد المعرفي يقوم على إنتاج المعرفة ونشرها واستخدامها، فالمعرفة هي المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي، ويتضح هذا جليا في القطاعات ذات التقنية العالية والعمال المؤهلين والمدربين ومخرجات هذه القطاعات من منتجات (كأجهزة الحاسب)، وخدمات (كالتعليم والتدريب). والقطاعات المعنية بالمعرفة هي التعليم والاتصالات والمعلومات، لكن خلافا لما يعتقده البعض، فالاقتصاد المعرفي لا يدور بالضرورة حول التقنية أو تقنية المعلومات. فكل ما يرتبط بتطبيق المعرفة ودورها في زيادة أو تحسين الإنتاج يمكن أن يندرج ضمن ذلك الاقتصاد.
لقد تبنت كوريا الجنوبية الاقتصاد المعرفي كخيار استراتيجي لتحقيق التنمية الاقتصادية وتوفير فرص عمل ذات مردود مادي مرتفع، وأثبت ذلك البلد الآسيوي حقيقة أن الموارد الطبيعية ليست الشرط الرئيسي المطلوب لتحقيق التنمية، مؤكدا أن التنمية أساسها البشر. فالتنمية تحتاج إلى موارد بشرية، إلى عقول تزخر بالمعرفة، إلى أيدٍ مصقولة بالمهارات، إلى عزيمة وإصرار، إلى تخطيط وتنفيذ.
لم يكن لكوريا أن تتطور من دون توفر منظومة متكاملة للتعليم والتدريب، حيث كان التعليم وتطوير الموارد البشرية عوامل رئيسية في النهضة الاقتصادية التي شهدها البلد خلال نصف قرن من الزمان، ونقلها من مصاف الدول الفقيرة (كمعظم الدول الإفريقية) إلى مصاف الدول الغنية ذات الدخل العالي.
لقد نجح الكوريون الجنوبيون منذ الخمسينيات في أن تواكب خطط وسياسات التعليم مع خطط التنمية الاقتصادية التي وضعتها الحكومة. وعلى وجه الخصوص، فقد تمت رعاية النظام التعليمي ودعمه بما يتماشى مع احتياجات سوق العمل. وبالتالي، فإن خطط التعليم الكورية قد ركزت طيلة الخمسينيات على توسيع التعليم الابتدائي والمتوسط اللذين كانا ضروريين جدا لتخريج عمالة متعلمة (غير أمية) وإلحاقها في سوق العمل. ثم بدأت كوريا تركز في الستينيات على التعليم الثانوي المهني لتوفير عمالة تملك المهارات اللازمة لتشغيل قطاع الصناعات الخفيفة. وفي السبعينيات فقد ركزت على الكليات المهنية التي تمنح ''الدبلومات'' لتوفير فنيين يعملون في قطاعي الصناعات الثقيلة والكيماويات. أما في الثمانينيات، فقد نجحت سياسات الحكومة في التوسع في التعليم العالي، ما ساعد على توفير عمالة مؤهلة تعمل في مجالات البحث والتطوير أسهمت في النهضة العلمية للبلد.
لقد أسست كوريا الجنوبية عام 1973م ''مدينة دايديوك العلمية''، التي عرفت لاحقا بـاسم ''دايديوك أنابوليس''، وهي مدينة البحث والتطوير، حيث تحتضن أكثر من 60 مركز بحوث بين عام وخاص. فالمنظومة العلمية لأي بلد تكتسب أهمية كبيرة في الاقتصاد المعرفي، حيث تأتي مراكز البحث والمختبرات الخاصة والعامة والجامعات في قلب هذه المنظومة التي تقوم بأدوار مهمة في الاقتصاد المعرفي هي:
• إنتاج المعرفة: خلق وتوفير معرفة جديدة.
• نشر المعرفة: تعليم البشر وتطوير قدراتهم (تنمية الموارد البشرية).
• نقل المعرفة: توزيع المعرفة وتوفير المدخلات لحل المشكلات.
وأدى تراكم المعرفة إلى خلق نمو اقتصادي طويل الأمد في كوريا الجنوبية، حيث قد نجح ذلك ''النمر الكوري'' في تكوين اقتصاد معرفي راسخ قام أربعة أركان هي:
• مؤسسات حكومية فاعلة تضع السياسات والخطط الاقتصادية وتشرف على تطبيقها وعلى حسن توزيع الموارد وعلى تشجيع الإبداع والمبدعين.
• قوى عاملة مؤهلة ومدربة تسعى باستمرار إلى تطوير قدراتها ومهاراتها بما يتواكب مع المستجدات المعرفية والاحتياجات المحلية.
• مؤسسات إبداعية (شركات، ومعاهد بحث، وجامعات) تتنافس على حيازة المعرفة وتوليدها ونشرها.
• بنية تحتية حديثة للاتصالات والمعلومات تساعد على تداول المعرفة ومعالجتها ونشرها بين أفراد المجتمع.
خاطرة أخيرة
هل كان العرب والمسلمون خلال عصورهم الذهبية يبدعون في ظل اقتصاد معرفي؟ وهل يمكن لذلك الزمان أن يعود؟
* جامعة الملك سعود - كلية إدارة الأعمال - قسم الموارد البشرية