الحمد لله أنها لم تتحقق
''طلبت الهيئة في بداياتها ميزانية ضخمة لتطوير السياحة ولم تتحقق ـــ والحمد لله ـــ أنها لم تتحقق في ذلك الوقت''. هذا ما قاله سمو الأمير سلطان بن سلمان، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، في احتفال الهيئة بمرور عشر سنوات على تأسيسها. وأضاف: ''ولو حصلنا على تلك المبالغ لفشلنا ولما تفرغنا لتأسيس السياحية كأنظمة وثقافة وقطاع منظم''. هذه الصراحة هي سنّة حسنة في قراءة الأداء، بعيدا عن جاذبية الأرقام الضخمة.
لم أسمع من قبل حديثا يقرأ الجانب الآخر في أرقام الميزانيات الكبيرة، ويربطها بسياسة رسم وتنفيذ الأولويات، حيث لا يكون النجاح مرهونا بتوافر موارد مالية ضخمة، بل بكفاءة إدارة هذه الموارد وتوظيفها.
حديث صريح عن مشكلة عبء الأرقام وعلاقتها بالأداء الحكومي. حديث في اتجاه آخر يختلف تماما عما ألفناه عن جمال الأرقام، وأن بين فواصلها سر النجاح والإنجاز. ثقافة جديدة وواقعية لا ترى الغاية في الأرقام، وإنما ترى في غيرها وسائل ناجحة للبدء بالأولويات.
ظل الإخفاق في أذهان بعض المنفذين مرتبطا بعدم توافر موارد مالية كافية في الميزانية، حيث تتم قراءة كل تفاصيل الأداء بالأرقام، ويعلق على ضعفها كل عوامل القصور. وعندما تدفقت الموارد وتضخمت الأرقام، وزالت الأعذار وأسبابها؛ تعثرت أقدام المنفذين بين فواصل المليارات. يتردد صدى أخبار توقيع مشاريع ضخمة بملايين ومليارات الريالات، خاصة مع نهاية السنة المالية، ويتطلع المواطنون لتلمس نتائج هذه المشاريع والأرقام على أرض الواقع في وقتها المحدد تنفيذا وتشغيلا، حيث كثيرا ما تحضر أخبار التوقيع وتغيب أخبار التنفيذ والتسليم.
ولا تزال هناك شكوى دائمة من بعض الخدمات الحكومية المقدمة للمواطن من ناحية الكم والكيف، وإذا تأملنا القصور في الأداء المتعلق بهذه الخدمات؛ فإنه لا يرتبط في حالات كثيرة بحجم المشروعات ولا بالميزانية المعتمدة؛ وإنما يرتبط بكفاءة إدارة الخدمات والموارد المتاحة لهذه الجهات. النموذج الذي قدمه سمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار يقوم على تنظيم الأولويات؛ إذ قدمت الهيئة سن القواعد والإجراءات والآليات والبيئة المناسبة كي تتحرك الأرقام بنجاح، وتتحقق أهداف التنمية.
تخصيص الأرقام يسير جدا، ولكن قراءة الأرقام على أرض الواقع هو التحدي الحقيقي. أعتقد أن هناك حلقة مفقودة بين الأرقام والمأمول منها، وللمثال فقط، لماذا تتعاظم أرقام الميزانية ولا تتناقص معدلات البطالة، أو تتحسن بعض الخدمات العامة المقدمة للمواطن؟ لدينا مشاريع ضخمة بمليارات الريالات، ولكن لدينا أيدٍ عاملة وافدة، تذكر بعض التقارير أنها حولت في العام الماضي أكثر من 15 مليار دولار، في الوقت الذي لا تزال نسب البطالة مرتفعة، والمواطن بعيد عن كعكة مشاريع المقاولات التي تدر مليارات الريالات.
الأرقام مبشرات بالخير، ولكننا في حاجة ماسة لأن ننظم بيئة قادرة على توظيف الأرقام بكفاءة. بيئة تستطيع أن تحول أرقام الإنفاق العام إلى استثمار حقيقي يتواصل ريعه ليعم أجيالا قادمة لا نعلم ما ينتظرها. بيئة تتجاوز ثقافة تقدير الإنجاز بالأرقام إلى قراءة الحقائق على الأرض. نريد مؤسسات حكومية تستطيع أن تبني نموذج أداء متميز ليس وقوده دوما المشاريع المعتمدة في الميزانية، وإنما قدرتها على تحسين خدماتها بالقدر المناسب والمعقول من الإنفاق.