Author

الأجر العادل ومعدل البطالة في المملكة العربية السعودية

|
يعد ''قانون الأجر الحديدي'' الذي تبلور على يد المفكر الاقتصادي دافيد ريكاردو من أولى النظريات الاقتصادية التي ناقشت كيفية تحديد الأجر العادل للفرد العامل، والذي ينص على أن الأجر العادل للعامل يجب أن يتعادل مع الحد الأدنى الضروري للحياة. بعد ذلك ظهرت بعض النظريات، منها نظرية إنتاجية العمل، والنظرية الاجتماعية للأجور، والنظرية الماركسية، وصولا إلى نظرية آلية السوق الحرة التي تعتمد على قوى العرض والطلب لسوق العمل. وفقا لنظرية آلية السوق الحرة (اقتصاد السوق)، يلعب الأجر المتوقع من العمل الدور الرئيس في تحديد الأجر التوازني. فإذا ارتفع الأجر الحقيقي المتوقع شكَّل ذلك دافعا قويا لدى الأفراد لزيادة العرض من العمل. في المقابل يعتبر عنصر العمل أحد أهم عناصر الإنتاج، وعليه فإن المنشأة تسعى دائما لتخفيض تكاليف استخدام هذا العنصر ما أمكن عن طريق تخفيض الأجر مما ينتج من ذلك علاقة عكسية بين الطلب على العمل من قبل المنشآت وبين الأجر الحقيقي. وبتساوي قوى العرض والطلب تتحدد الكمية المطلوبة من العمل ومستوى الأجر الحقيقي. لكن أثبتت التجارب أن ميكانيكية الأسعار (الأجور) الليبرالية لا تحقق التوازن في سوق العمل؛ نظرا لتضارب مصالح أرباب العمل والعمال، وعليه لا بد من وجود إدارة اقتصادية تتدخل لسد هذا الخلل عن طريق سن بعض القوانين تسمح أن يكون الأجر الذي يتقاضاه العامل يوفر له ولأسرته حياة كريمة، خصوصا للعمالة غير الماهرة أو شبه الماهرة (مبدأ التدخل، أو الاقتصاد الموجه الذي سادت أفكاره بعد الحرب العالمية الأولى). من ضمن هذه القوانين قانون الحد الأدنى للأجور. يرى البعض أن السبب الرئيس للارتفاع الهائل في معدل البطالة بين المواطنين السعوديين هو عدم ملاءمة مخرجات التعليم والتدريب بمتطلبات السوق، ومن ثم فإن الحل المناسب لهذه المشكلة هو تأهيل وتدريب الفرد السعودي من خلال برامج تدريبية تتوافق مع متطلبات واحتياجات السوق، إضافة إلى إحداث تغيرات هيكلية في نظام التعليم والتدريب، خصوصا فيما يتعلق بالمناهج الدراسية وطرق التعليم. بينما يرى البعض الآخر أن الحل الأمثل هو سن بعض القوانين التي تجبر المنشآت العاملة في القطاع الخاص على توظيف السعوديين (برنامج السعودة). وعلى الرغم من تطبيق كلا البرنامجين، إلا أن جميع الدلائل والإحصاءات تدل على عدم النجاح حتى الآن في معالجة هذه الظاهرة! إذاً أين الخلل؟ إن الخلل الرئيس الذي أدى إلى تفاقم مشكلة البطالة لدينا هو المستوى السائد لمتوسط الأجور في سوق العمل. فبحسب آخر الإحصاءات الصادرة عن وزارة العمل، فإن متوسط الأجر الشهري للفرد العامل في القطاع الخاص وصل إلى 991 ريالا في الشهر عام 2009، بينما كان 1400 ريال في الشهر عام 2008؛ مما يدل على أن متوسط مستوى الأجور في سوق العمل منخفض جدا، ولا يفي بالحاجات الأساسية والضرورية للفرد السعودي. نحن هنا أمام مشكلة رئيسة هي العمالة المستوردة الرخيصة التي وصل عددها إلى نحو 6.8 مليون فرد يعملون في القطاع الخاص، في المقابل وصل معدل البطالة بين الأفراد السعوديين نحو 10.5 في المائة. يناقش هذا المقال إمكانية سنّ قانون الحد الأدنى للأجور للعمالة غير الماهرة وشبه الماهرة في السعودية للتغلب على ظاهرة البطالة التي تعد من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصادي السعودي. ونقصد بالحد الأدنى للأجر هو أقل أجر يمكن أن يتقاضاه الفرد العامل عن كل ساعة عمل، والذي يعكس الحد الأدنى لمستوى المعيشة السائد في البلد، وبنص القانون لا يجب أن يقل أجر العامل عن هذا المعدل. يُعرف العمل على أنه كل مجهود إرادي ذهني أو عضلي يُبذل من قبل الفرد في سبيل الحصول على منفعة مادية أو غير مادية. وعليه تقوم الفلسفة الاقتصادية للعمل على أن الفرد يفاضل بين الجهد المبذول وبين المنفعة (الأجر في الغالب) التي سيحصل عليها نظير عمله لحساب شخص آخر. أي أن الفرد يقوم بالعمل لدى الغير في مقابل الحصول على مصدر رئيس للدخل (الأجر) ليمكنه من إشباع حاجاته الأساسية والضرورية. فإذا تساوت المنفعة المتوقعة أو فاقت الجهد المبذول قَـبِل بالوظيفة، وإلا فإنه يفضل أن يصبح عاطلا على أن يعمل بمنفعة أقل من الجهد المبذول. بناءً على هذه القاعدة الاقتصادية، يمكن القول إن وجود عدد كبير من العاطلين السعوديين عن العمل هو ليس لعدم تناسب تطلعات هؤلاء الأفراد والوضع السائد في سوق العمل، خاصة فيما يتعلق بنوعية العمل أو عدم ملاءمة مؤهلاتهم ومتطلبات سوق العمل، بل بسبب الانخفاض الهائل في المستوى العام للأجور الذي يدفع الفرد إلى تفضيل عدم العمل على أن يعمل بأجر لا يكاد أن يفي بأبسط متطلبات الحياة. هذا من جهة، وفي الجهة المقابلة، يعتبر هذا الأجر مقبولا، بل ربما مغريا لشريحة معينة من العمالة الأجنبية؛ مما يدفعها لقبول الوظيفة؛ مما يجعل تفضيل المنشآت العاملة في القطاع الخاص تتجه نحو العامل الأجنبي، وذلك للتقليل من تكاليف الإنتاج وتعظيم الإرباح. إذاً السؤال الذي يُطرَح بقوة هنا هو: كيف لنا أن نجعل الفرد السعودي منافسا قويا للعامل الأجنبي؟ أو كيف لنا أن نُقنع القطاع الخاص بأن العامل السعودي أقل تكلفة من العامل الأجنبي؟ لعلاج هذه المشكلة يمكن طرح قانون الحد الأدنى لأجور العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة كأحد الحلول لمشكلة البطالة لدينا. بمعنى أنه لكي يتم كسر احتكار العمالة الأجنبية لسوق العمل، لا بد من رفع المستوى العام للأجور ليعكس المستوى المعيشي للأفراد داخل البلد، وعليه يصبح أجر العامل الوافد يعكس متوسط المستوى المعيشي للأفراد. أي أن الفرد العامل (الوافد أو الوطني) لا بد أن يحصل على أجر عادل يمكنه من تلبية حاجاته الأساسية للحياة الكريمة ويحقق له الرفاه الاقتصادي في البلد الذي يعمل فيه، وليس لبلد الوافد. لكن المشكلة لدينا أن أكثر عقود العمالة الأجنبية تكتب بناءً على المستوى المعيشي لبلد العامل الوافد؛ مما يجعلها رخصيه جدا في المملكة. وعليه لحل هذه المعضلة لا بد أن يتساوى العامل الوافد مع العامل الوطني من ناحية الأجر. بهذه الطريقة ستكون تكلفة توظيف العامل الوافد مساوية أو ربما أكثر من العامل السعودي؛ مما يجعل المنشآت الخاصة تتجه نحو توظيف عمالة سعودية بأجور تعكس متوسط المستوى المعيشي للأفراد. ولكن يجب الالتفات إلى أن نظام الحد الأدنى للأجور قد يؤدي إلى بعض المشكلات الاقتصادية، خصوصا في الأجل القصير. من أهم هذه المشكلات زيادة معدل البطالة، والارتفاع في المستوى العام للأسعار (حدوث تضخم). كيف؟ ذكرنا في مقدمة المقال أن عنصر العمل يعد من أحد عناصر الإنتاج؛ ولذا تسعى المنشأة إلى تخفيض تكاليف هذا العنصر بقدر الإمكان، ومن ثم فإذا زاد الأجر المدفوع للعامل، هذا يدفع المنشآت إلى الاستغناء عن بعض العمال والموظفين؛ وذلك للتقليل من إجمالي تكاليف الأجور، مما يؤدي إلى زيادة معدل البطالة. كذلك زيادة الأجر المدفوع للعامل تعني زيادة في تكلفة المنتج الذي تقوم المنشأة بإنتاجه، وعليه فإن هذه الزيادة في التكاليف ستنعكس على أسعار هذه المنتجات والتي سيتحملها المستهلك النهائي. هذا من جهة أما من الجهة الأخرى، فإن الزيادة في أجور بعض العاملين، إضافة إلى دخول شريحة من العاطلين لسوق العمل، تؤدي إلى إحداث زيادة في الاستهلاك الخاص مما يولد ضغوطا تضخمية على المستوى العام للأسعار، خصوصا عند حدوث فائض في الطلب (عجز في العرض) في سوق السلع والخدمات. لكن هذه المشكلات يمكن التغلب عليها إذا كانت سوق السلع والخدمات (أو القطاع الخاص بشكل عام) مرنة كفاية للاستجابة إلى الزيادة في الكميات المطلوبة من السلع والخدمات، إضافة إلى أنه يمكن استخدام السياسة النقدية للتخفيف من هذه الضغوط التضخمية. إن تجربة المملكة مع الحد الأدنى للأجور ليست حديثة، فهذا النظام معمول به في القطاع العام منذ سنوات عديدة. فلكل قطاع من القطاعات الحكومية سلم رواتب خاص به. فهناك سلم رواتب للموظفين، وآخر للمدرسين، وآخر للعاملين في القطاع الصحي والعسكري. فلماذا لا يكون هناك حد أدنى أو سلم للأجور لكل قطاع من القطاعات الخاصة؟ سأنهي مقالي بقانون جريشام القائل إنه: ''عندما ينزل إلى سوق التداول في بلد ما نوعان من النقد، فإن العملة السيئة تطرد العملة الجيدة من السوق''. وعليه فإن العمالة الرخيصة دائما ستطرد العمالة غير الرخيصة، خصوصا عندما تكون غير ماهرة أو شبه ماهرة. نحن هنا أمام مفرق طريق، أما أن نستغني عن العاملة الأجنبية تماما وهذا ليس بالأمر المستحيل، لكنه صعب في الأجل القصير والمتوسط، أو أن نجعل الفرد السعودي منافسا قويا للعامل الأجنبي في القطاع الخاص من ناحية الأجور والتدريب.
إنشرها