إيران تبتلع العراق وهدفها مصادرة عروبته
تسلمت إيران العراق على طبق من ذهب من الغزوة العسكرية الأمريكية لهذا البلد في عام 2003. لم يستفد أحد من غزو العراق واحتلاله وتدمير دولته واجتماعه الوطني غير إيران. أمريكا نفسها لم تستفد مما اقترفته يدها منذ سبعة أعوام ونصف، فها هي ترحل عنه بالتقسيط بعد أن أرهقتها الحرب فيه وكلفتها غاليا: بشريا واقتصاديا وأخلاقيا.
#2#
أما دول الجوار العربي، فاستفاقت بعد الغزو على حقائق إقليمية جديدة حملت إليها هواجس أمنية وسياسية مشروعة، أولها وجود جيش احتلال أمريكي على حدودها، وثانيها اختلال في التوازن الإقليمي لمصلحة إيران بعد إسقاط الرادع التاريخي (العراق)، وثالثها تحريك جمرات العصبيات الطائفية والمذهبية من تحت الرماد وإطلاق مفعولها في لحم وعظم الكيان الاجتماعي والوحدة الوطنية والاستقرار السياسي.
سيرحل الأمريكيون، أو مَن تبقى من عساكرهم، من بلاد الرافدين كي يتفرغوا لأفغانستان مثلما قضت سياسة إدارتهم الجديدة وأولويات الأمن القومي لديها. سيرحلون، ولكن “بعد خراب البصرة” كما يقول المثل والواقع معا. ليس ثمة ما يضمن ألا يقع عراق ما بعد الاحتلال فريسة لأطماع إيران، ولا ما يضمن أن ذلك لن يحصل بترتيب معد سلفا. فلقد دخل الأمريكيون إلى العراق – مثلما دخلوا إلى أفغانستان – من طريق تفاهم مع إيران على ما يردده الطرفان. ومَن أدرانا إن كانت مفاعيل هذا التفاهم ستمتد آثارا إلى الانسحاب فتأخذ إيران حصتها من النفوذ الذي لم تفرط به حتى حينما كان جيش الاحتلال الأمريكي يسيطر على البلد.
على العرب ألا يستبعدوا هذا الاحتمال الوارد جدا بين غريمين يعرفان جيدا كيف لا يصطدمان ببعضهما لو استعصت عليهما حلول السياسة، ويعرفان أكثر كيف يتحالفان بصمت ويتبادلان المنافع. ولا بأس هنا من تنشيط الذاكرة: سهلت إيران استحصال الشرعية لـ “مجلس الحكم الانتقالي” بعد الغزو مقابل حصولها على وضع منظمة “مجاهدي خلق” ضمن القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية ونزع سلاحها وتفكيك معسكراتها. وقبل فترة قصيرة، صرحت هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية الولايات المتحدة، بأن لإيران رأيا في تشكيل الحكومة العراقية بعد الانتخابات. وبين الحدثين كان قانون بريمر (قانون الدولة الانتقالي) - الذي أصبح نواة للدستور – قد استجاب لمطالب إيران في حفظ حصة سياسية معتبرة في النظام السياسي للقوى الاجتماعية والدينية التي تعتبرها “امتدادا” لها في العراق، وحصة في التمثيل النيابي أكبر لمحافظات الجنوب والفرات الأوسط.
ويخشى اليوم، على نطاق واسع: عراقي وعربي، ألا يكون الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق مناسبة حقيقة لاستعادة هذا البلد استقلاله وسيادته المغتصبين كما يُفترض عند جلاء أي احتلال أجنبي، بل مناسبة جديدة لمعاناة عراقية متجددة مع التداخلات الأجنبية في حياته ومستقبله ومصيره. وهي خشية مشروعة بالنظر إلى حجم الاختراق السياسي الإيراني الملحوظ للداخل العراقي، والذي تبدت مستوياته اليوم على صعيد القرار السياسي بمناسبة الجدل المحتدم حول تشكيل الحكومة! وإلى ذلك فإن إيران ما عادت تتحرج في إبداء موقفها صراحة من الشأن العراقي الداخلي ولا الإيحاء بأنها صاحب الكلمة الفصل في مستقبله السياسي. وليس قليلا أنها أجبرت مؤسسات القضاء العراقي على إسقاط مرشحين من قائمة من يحق لهم خوض المنافسة بدعوى أنهم بعثيون يشملهم “قانون اجتثاث البعث”، وأنها أجبرت الإدارة الأمريكية على التسليم بأن طهران من يحدد رئيس الوزراء وليس أحدا غيرها.
هذا ليس كلاما برسم استعداء إيران أو التحريض ضدها، فلا مصلحة للعرب في ذلك، بل إن أفضل مصالحهم في هذا الأمر أن تقوم علاقات طبيعية عربية – إيرانية يفرضها الجوار والتاريخ المشترك والتحديات المستقبلية، غير أن إيران اليوم، وخاصة في حقبتها السياسية ما بعد الخاتمية، لا تبدو مستعدة لتصفية أسباب التوتر في علاقتها بجوارها العربي. وكائنة ما كانت مواقف إيران في قضية فلسطين، تظل أربع قضايا خلافية بينها وبين العرب حائلا دون التطبيع والتعاون واستعادة الثقة المفقودة وتبديد الهواجس: البرنامج النووي، الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبي موسى، التدخل في النسيج الديني والمذهبي للبلدان العربية، ثم رعاية مشروع طائفي تقسيمي (أو هيمنوي) في العراق. ولن نهتم في لائحة الخلافات هذه سوى بالمسألة الأخيرة.
لم يكن يخفى على أحد أن إيران رحبت بالغزو الأمريكي للعراق ووفرت له أشكالا مختلفة من المساعدة ليس أقلها الإيعاز لحلفائها في العراق بالتعامل مع عملية الغزو وقوات الاحتلال. ولقد يكون مما دار في خلد البعض أن إيران إنما فعلت ذلك من باب الثأر من العراق ومن نظام الرئيس صدام حسين على الهزيمة العسكرية التي لحقتها في حرب الخليج الأولى، ومن باب الرغبة في أن تكون الغزوة الكولونيالية الأمريكية للعراق مناسبة لتدمير ما بقي لدى هذا البلد من قدرة استراتيجية مؤرقة لإيران. وربما كان في حسبان كثيرين أن هدف إيران النهائي من تأييد الغزو إنما هو الإخلال بالتوازن الإقليمي لصالحها. وليس التقدير هذا بعيدا عن الوجاهة؛ ففي تأييدها الغزو شيء من الرغبة في الثأر، شيء من الرغبة في رؤية العراق مدمر القوى والإمكانيات من التطلع إلى استثمار القوى والإمكانيات، ثم شيء من التطلع إلى استثمار نتائج الغزو لتصبح قوة إقليمية أولى في المنطقة تملي إرادتها على دولها. غير أن الذي فات هؤلاء وأولئك أن يدركوه هو أن طموح إيران أبعد من ذلك بكثير، فهي تهدف من وراء احتلال العراق مد نفوذها إليه، بعد أن يكون كيانه قد سقط، وإعادة تركيبه على النحو الذي تشاء وترتئي.
منذ سنوات سبع وإيران تخوض في هذه السياسة الرامية إلى التفكيك وإعادة التركيب: إنشاء مليشيات وتسليحها، رعاية مشروع طائفي ومذهبي يهدف إحادث انقلاب في التوازن الاجتماعي الداخلي، تمكين قوى بعينها من السيطرة على مؤسسات الدولة، التدخل الأمني والاستخباري الكثيف في مناطق الجنوب والفرات الأوسط وبغداد، وضع اليد على حقول نفطية في شرق العراق، هندسة الكتل والتحالفات السياسية، تشجيع نزاعات التقسيم من خلال التشجيع على فكرة الإقليم في الجنوب... إلخ. ولم يعد الكثير لتصور المشهد البعيد أمام مستقبل العراق – من وراء هذه الهندسة الكيانية الإيرانية – هو تمزيق وحدته الوطنية والاجتماعية عن طريق إغراقه في الطائفية المذهبية فحسب، وإنما أيضا المس بعروبته وانتمائه الكياني التاريخي إلى الوطن العربي، والأخبار المتواترة عما يجري من تغيير لهويته في مناطق عديدة منه مخيفة ومقلقة.
أمام العرب اليوم مسؤولية تاريخية كبيرة عليهم أن ينهضوا بها سعيا وراء حماية مصير العراق مما يرتب له ويمارس فيه منذ سنوات، وسعيا وراء حفظ أمن قومي يتهدده التمدد الأجنبي في هذا البلد الرئيس في المنظومة العربية. إن استعادة العراق إلى محيطه العربي لن يكون ممكنا إلا عن طريق رعاية مشروع عربي لخلاصه، أي من طريق رعاية عربية لأزمته الداخلية المستفحلة، وصون أمنه الوطني وسيادته من المطامع الأجنبية. وليس من شك في أن المبادرة السعودية بدعوة القوى العراقية إلى حوار داخلي لفض النزاع حول تشكيل الحكومة هي مقدمة سياسة تأسيسية لمثل تلك الرعاية العربية المطلوبة لحل الأزمة العراقية. يدرك جميع الحريصين على وحدة العراق وعروبته ذلك، هذا ما يفسر الترحيب العام الذي حظيت به المبادرة في الدائرتين العربية والإسلامية. لم يعترض عليها إلا من لا يرضيه أن يرى العراق في موقعه الطبيعي داخل أسرته العربية.