التَمَلُّق آفة اجتماعية تبناها ابن خلدون (1/2)

جاء في سُنن النسائي: "الْمَلَقُ": الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي"! وذلك لا يجوز لغير الله عزّ وجلّ، "والإمْلاق يعني الإفساد، والمَلِق الذي يَعِدكَ ويُخْلِفك.. ويتزين بما ليس عنده" (لسان العرب)، "ورجل مَلِق: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه" (القرطبي)، وللتَمَلُّق تقنيات، منها: الخضوع والتذلل والمداهنة، والثناء الكاذب، والغيبة والنميمة..، يستعين بها المُتَمَلّق، للفت انتباه المُتَمَلَّق له وكسب رضاه، كوسيلة للتسلق الاجتماعي، وتحقيق المآرب الشخصية، متجاوزاً للقيم الدينية والأخلاقية، مغلفاً الحقيقة بغلاف المجاملة المزيفة!
حقيقة، لم أكن أحسب أن ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، كان أستاذاً يُعلّم التَمَلُّق والمداهنة! إذ يقول في "مقدمته": "إن التعاون بين الناس لا يحصل إلا بإكراه البعض على التَمَلُّق، ممن يمتنعون، من ذوي الأنفة والاستعلاء الفطري، لجهل حكمة الله في هذا التعاون لبقاء النوع البشري"! ويستشهد بقوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا)"(الزخرف:32).
استعانة ابن خلدون بهذه الآية الكريمة، لإلباس التَمَلُّق لبوس الدين، لم تكن موفقة، إذ نجد في "التفاسير" أنها موجهة لكفار قريش، المُتَمَلِّقين المداهنين الصادين عن الفطرة، لاعتراضهم على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- إذ ارتأوا أن النبوة يجب أن تكون في رجل ذي مال، فالمال عندهم هو الشرف والمكانة! والله يقول لهم في هذه الآية: أما تستحون! وقد قسمنا بينكم ما تأكلون وتشربون وتسكنون.. ثم، تعترضون على الله في اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟!
وليت ابن خلدون اكتفى بذلك، بل دعا إلى "إكراه البعض" على التَمَلُّق وتجاوز الفطرة السليمة! "ناصحاً" ومنبهاً بقوله: "إنَّ الخضوعَ والتملُّقَ من أسبابِ حصولِ الجاهِ المحصّلِ للسعادةِ والكسبِ، وإِن أكثرَ أهلِ الثروَةِ والسَعادةِ بهذا الخُلُق. ولهذا نجدُ الكثير ممن يتخلَّقُ بالترفُّعِ والشَّمَمِ، لا يحصُلُ لهم غرضٌ من الجاه، فيقتصِرونَ في التكسُّبِ على أعمالِهِم، ويصيرونَ إلى الفَقْرِ والخصاصةِ"!
ميَّز ابن خلدون هنا بين فئتين: فئة تبرع في الخضوع والتَمَلُّق، فتحصّل الجاه والكسب، لا بل والسعادة أيضاً! والفئة المقابلة، البارعة في الأنفة والطباع الحميدة، ستصير إلى الفَقْر، لإصرارهم على المحافظة على فطرتهم، والاقتصار في تكسبهم على عملهم، التي يعتبرها مخالفة لحكمة الله في خلقه!؟ فبرأيه: أن "هذا الكِبْرَ والترفٌّعَ – عن التَمَلُّق والمداهنة - من الأخلاق المذمومة"! إذاً، المُتَمَلّق، برأي ابن خلدون، هو: الشخص الناجح، المتكسب والسعيد، المحقق لعمارة الأرض وحكمة الله في الخلق!
من كل ما جاء، لا ضير إذا وصفنا ابن خلدون بالديماغوجي، الذي يعني، كما جاء في "موسوعة السياسة": "موقف شخص يقوم على الإطراء الكاذب، والكلام المبسط المتزندق، والوعود الكاذبة"، للوصول إلى الغاية بغير تبرير منطقي أو شرعي أو أخلاقي للوسيلة!
والمهم هنا، استشعار الطابع المادي – الدنيوي، فالجاه، إلى جانب المال، هو المحرك لهذه الديماغوجية الخلدونية! وأسأل ابن خلدون: هل أردت أن تنحرف بالأخلاق الحميدة وفطرة الله.. من أجل كسب المال وتحصيل الجاه؟ ألم تقرأ قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) (الإسراء:31)، أي لا تخشوا الفَقر! (ابن كثير) وأين أنت الآن من الجاه والسعادة المنشودة؟
إلا أن دعوة ابن خلدون لضرورة التَمَلُّق، حققت، ولا تزال، نجاحاً منقطع النظير! فالتوجه العام لسكان القرية الكونية، ونحن منهم، هو تحصيل المال والسلطة، لتصبح ثقافة التَمَلُّق والمداهنة عقدة نفسية مسيطرة، ومظهراً اجتماعياً عادياً، يمارسها الأفراد والجماعات، بقصدٍ أو بغير قصد، وربما بالإكراه – كما قال ابن خلدون – في كثير من الأحايين.
ليصبح التَمَلُّق، على مر العصور، من أهم أسباب تردي أوضاع المجتمعات على كافة المستويات.. كونه أصبح سمة لا يمكن أن ننكر حضورها الدائم، في كل جزئية من حياتنا، تتقنها الغالبية، إلا من عصم الله، وهم قلة!
وقد يتساءل القارئ: متى نشأ التملق؟ ما الفرق بين التملق الفردي والتملق الجمعي؟ وهل صحيح أن التَمَلُّق أخطر من النفاق؟ ما هي الصفات الظاهرة للمُتَمَلِّق.. وما هي أضراره؟ ما هو الحد الفاصل بين: المجاملة والمديح والتودد المباح وبين التَمَلُّق؟ هل حقيقة أن القليل من التَمَلُّق يصلح الحياة؟! ما هي الوسائل المتاحة للحد من ظاهرة التَمَلُق؟ وكيف حارب الإسلام التَمَلُق؟ هذا ما سأبيّن بعضه، وباختصار، في المقال القادم، إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي