العودة إلى الكساد العظيم.. أزمة الاقتصاد العالمي

المشكلة المركزية قد حلت
وقعت الأزمة المالية الأخيرة رغم تطمينات إيجابية أطلقها خبراء اقتصاديون بالغوا الأهمية قبل الأزمة بفترة قليلة، لقد بدأت الأزمة في رأي المؤلف عام 1978 عندما بدأت الصين تسلك طريق الرأسمالية، والحقيقة أنه حتى مطلع التسعينيات كانت الصين لا تزال عاجزة عن الانضمام إلى طبقة الدول المتنافسة عالميا، فقد كان الاقتصاد العالمي حلبة صراع مباشر بين أوروبا وأمريكا واليابان، ولكن تغيرت أشياء كثيرة، وحدثت أشياء كثيرة وبالغة الأهمية، لعل أهمها انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكانت نهاية تعتبر من الألغاز الكبرى في عالم الاقتصاد السياسي.
وقد غيرت صناعات المعلومات والاتصالات والعولمة في الاقتصاد تغييرا كبيرا لدرجة أنه صار يصعب تذكر صورة وضع العالم قبل العولمة، وتضافرت عوامل كثيرة لم نفهمها بالكامل بعد، مثل انخفاض الحواجز الجمركية، وتحسن وسائل الاتصال، وظهور النقل الجوي الرخيص.
ولم يصب الازدهار العام في الولايات المتحدة الجميع، وتوزعت منافعه على نحو غير عادل، ووصل التفاوت في الثروات والمداخيل إلى مستويات لم يبلغها منذ العشرينيات، وتدنت الأجور الحقيقية، ولم تكن اليابان قد تعافت من انفجار اقتصاد الفقاعة في شرق آسيا، وكانت أوروبا لا تزال تعاني استمرار معدلات البطالة العالية.
تجاهل الإنذار: أزمات أمريكا اللاتينية
حولت أمريكا اللاتينية إلى الإصلاح الاقتصادي، وكان تبدو قد بدأت تتقدم اقتصاديا وسياسيا بعد سلسلة من الأزمات الكبرى، وازدادت فاعليتها الاقتصادية، وتجددت الثقة لدى المستثمرين الأجانب، ولكن الأزمة ظلت تلقى بتداعياتها على الولايات المتحدة والعالم أيضا.
كانت الأزمة في الحقيقة كوارث كبيرة جدا بسبب أخطاء صغيرة، ولكن يجب ملاحظة أن ما حدث في المكسيك من أزمة اقتصادية جرت معها أيضا الأرجنتين يمكن أن تحدث في مكان آخر، فالنجاح الظاهري لأي اقتصاد، وإعجاب الأسواق ووسائل الإعلام بالمسؤولين عن إدارة هذا الاقتصاد لا يضمنان النجاح ولا يحصنانه من الوقوع في أزمات مالية مفاجئة.

فخ اليابان
كانت اليابان نموذجا للنجاح لدرجة هوست الأمريكان والعالم معها، ولكن اليابان اليوم تواجه صعوبات كبيرة، فالاقتصاد الياباني الذي كان رائد العالم المتقدم أنتج في عام 1998 أقل مما كان ينتج في عام 1991، ورغم أن محنة اليابان أقل خطورة من أزمة الدول الآسيوية الأخرى، فإنها طالت أكثر مما ينبغي، فكيف حصل ما حصل في اليابان؟ السؤال في رأي المؤلف بول كروجمان في غاية الأهمية، لأنها (اليابان) نموذج يمكن أن يحدث في دول متقدمة أخرى.
يصف المؤلف أزمة اليابان بأنها أزمة متسللة، فقد أخذ النمو يتدنى تدريجيا عاما بعد عام، ليس عن مستوى اليابان سابقا، وإنما أيضا عن كل التقديرات المعقولة لنمو طاقة اليابان الإنتاجية، وكانت الأزمة متدرجة وبطيئة جعلت سياسات اليابان الاقتصادية مزيجا غريبا من القدرية والادعاء وعدم الاستعداد الواضح للتفكير الجيد في أسباب الفشل، وعدم تقدير جدية وخطوة مشكلة أن الاقتصاد اليابان بدأ يتحول من الفائض إلى العجز، وقد كان الفخ الياباني هذا يطبق على الاقتصاد دون أن يفطن لذلك علماء الاقتصاد، وتحول إلى مشكلة خطيرة عل الصعيد العالمي، وعلى صعيد زعزعة العقائد والمبادئ الاقتصادية المعروفة.
وقد تحسن الاقتصاد الياباني (أو أظهر تحسنا) بدءا بعام 2003 عندما تزايدت صادرات اليابان إلى الولايات المتحدة بسبب انتعاش الاقتصاد الأمريكي، غير أن خلاص اليابان من فخها ظل غير محسوم نهائيا.

انهيار آسيا
رغم النمو السريع الذي حققته تايلاند في الثمانينيات والتسعينيات فما تزال بلدا فقيرا، فالقوة الشرائية لدى مجموع سكانها هي أقل من القوة الشرائية لسكان ولاية ماساتشوستس، رغم أنها بلد كبير يفوق عدد سكانها بريطانيا أو فرنسا، وقد يتصور البعض أن شؤون تايلاند الاقتصادية على عكس الاقتصاد الياباني الهائل لا تهم سوى التايلانديين وجيرانهم الأقربين والشركات ذات المصالح المباشرة في تلك البلاد، ولكن تخفيض قيمة العملة التايلاندية في عام 1997 حرك انهيارات مالية طمرت سيولها معظم آسيا، ولا بد من التساؤل: لماذا حدث ذلك؟ وكيف أمكن حدوثه فعلا؟
لقد ازدهرت تايلاند، وتحولت من اقتصاد زراعي تقليدي إلى مركز صناعي رئيس في الثمانينيات، وزادت نسبة النمو في تايلاند على 8 في المائة سنويا، وكانت معظم الاستثمارات مرتبطة بهذا النمو، غير أن اكتفاء تايلاند الذاتي ماليا بدأ بالتلاشي في التسعينيات، وكانت الدوافع إجمالا خارجية، بسبب سقوط الشيوعية وتحرك الاستثمارات الأجنبية بلا خوف إلى الأسواق الجديدة الواعدة، وبحلول عام 1997 كنت تدفقات رؤوس الأموال إلى البلدان النامية قد بلغت 256 مليار دولار. وقد حظيت الدول الآسيوية ذات الاقتصاد الناشئ بحصة كبيرة من هذه الاستثمارات، ولكن الاقتصادات في جنوب شرق آسيا تحولت منذ عام 1996 إلى ما يشبه اقتصاد الفقاعة الياباني في أواخر الثمانينيات، ولم تضع السلطات المالية ضوابط لرواج حركة المضاربات، أو أنها حاولت ولم تفلح، وأدى الازدهار الاقتصادي إلى رفع الأجور وتخفيض القدرة التنافسية للصادرات، وخاصة مع الصين المنافس المهم لتايلاند، وكانت النتيجة عجزا هائلا في الميزان التجاري، ولم تفعل الحكومات شيئا لإيقاف الانهيار، أو بالأحرى لم تقدر أن تفعل شيئا لمنع الكارثة. فماذا حدث لسياسة الاقتصاد الكلي؟ أدت حالة الذعر التي دبت في الأسواق إلى انخفاض كبير في العملة التايلاندية، وسحبت الودائع من البنوك بكميات هائلة، ووقعت المؤسسات المالية والشركات في مصاعب مالية، ثم امتدت العدوى إلى الدول المجاورة لتايلاند، ماليزيا وإندونيسيا وكوريا، واتجهت إندونيسيا بالذات نحو أسوأ تدهور اقتصادي في تاريخ البشرية.
لقد ارتبطت معظم عملات آسيا بالدولار، مما جعل صادراتها أكثر تكلفة، وتراجع الطلب العالمي على الإلكترونيات، التي كان العمود الفقري للصادرات الآسيوية، وربما كان سبب الأزمة الآسيوية غير المسبوقة في رأي المؤلف إضافة إلى الذعر الذي حل بالأسواق والناس هو أن الديون الجديد على عكس سابقاها كانت بالدولار، وتبين في النهاية أن ذلك كان سبب خراب تلك الاقتصادات.

ضلال السياسات الاقتصادية
كان الاقتصاد العالمي مضطرا لاختيار واحد من ثلاثة أنظمة نقدية تشوب كل منها علة خطيرة، فهي إما أن تختار المحافظة على سياسة نقدية مستقلة، وترك سعر الصرف يتقلب كما يشاء، وكان ذلك يجعلها قادرة على محاربة حالات الركود، ولكنه أدخل عنصر الشك وعدم اليقين في عالم الأعمال، وإما أن تختار تثبيت قيمة سعر الصرف، وتحاول إقناع الأسواق بأنها لن تقدم أبدا على تخفيض قيمة العملة، وبهذا تصبح ممارسة الأعمال أبسط وأكثر أمنا، ولكنه يعيد متاعب سياسة العملة الواحدة للجميع، والخيار الثالث هو الاستمرار في المحافظة على سعر صرف قابل للتعديل، أي تثبيت سعر الصرف مع الاحتفاظ بحق تعديله، ولكن هذا لا يمكن أن يكون فاعلا إلا إذا وضعت ضوابط على حركة رؤوس الأموال، وهذه يصعب تنفيذها، كما إنه فرض تكاليف إضافية على الشركات ـ وعلى غرار أي قيد في الصفقات المربحة المحتملة ـ كان سببا للفساد.
وقد استطاعت أستراليا ـ الشريكة جغرافيا واقتصاديا مع الدول الآسيوية ـ أن تتجنب الكارثة، أو أن تتجاوزها بخسائر أقل من الدول الآسيوية، ودون أن تحاول دعم عملتها بشرائها في سوق العملات الأجنبية أو برفع أسعار الفوائد، بل إن انخفاض قيمة الدولار الأسترالي منح الاقتصاد فرصا جديدة في الاستثمار، واستطاعت أستراليا أن تحقق ازدهارا في وسط الأزمة الآسيوية، فإذا استطاعت أستراليا تجنب الكارثة، فلماذا لم تنجح في ذلك كوريا وإندونيسيا؟
في رأي المؤلف فإن أسعار الصرف العائمة، وعلى الرغم من عدم كمالها، هي أفضل حل للمعضلة النقدية الدولية، وهذه تجربة نجحت في بلدان مثل كندا وبريطانيا والولايات المتحدة، ولكن المكسيك وتايلاند وإندونيسيا اكتشفت في التسعينيات أنها خاضعة لقواعد مختلفة، فقد أدت محاولاتها للدخول في تخفيضات معتدلة لعملاتها مرارا وتكرارا إلى اضمحلال الثقة، ومشكلة الثقة هذه هي ما يفسر بشكل أساسي أسباب توقف الميثاق الكنزي القائم على تدخل الدولة الاقتصادي.
وفي جميع الأحوال، ومهما كانت قيمة الملاحظات والتحليلات العلمية، تبقى النقطة الجوهرية المجمع عليها هي أنه لم توجد خيارات جيدة قطعا، وقد بدا أن قواعد النظام المالي الدولي لم توفر لعديد من البلدان سبلا للخروج من أزماتها، وبالتالي لا يمكن فعلا إلقاء اللوم على أحد لتردي الأوضاع، ولكن يستدرك المؤلف بأن هذا لا يعني بأنه لم يكن هناك أشرار.

فقاعات جرينسبان
كان ألان جرينسبان على مدى أكثر من 18 عاما رئيسا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وقد جعله هذا المنصب واحدا من أكثر المسؤولين الماليين نفوذا في العالم، بل إن تأثيره تجاوز سلطاته الرسمية، فهو كما وصفته مجلة ''تايم'' في عام 1999 المايسترو والمرجع والعضو الأبرز في لجنة إنقاذ العالم، ولكن رغم المديح الذي اكتسبه، فقد أصبح اسمه، كما يقول المؤلف، بغيضا جدا، فقصته توضح كيف أن صانعي السياسة الاقتصادية أقنعوا أنفسهم بأنهم يسيطرون على الوضع برمته، ليفاجأوا وتفاجأ البلاد فيما بعد بأن الأمر ليس كذلك.
فقد رفض جرينسبان القيام بأي تصرف استباقي، وأعلن عن اعتقاده بأزمن زيادة معدل الإنتاجية ربما غيرت العلاقة التاريخية بين انخفاض معدل البطالة وتسارع التضخم، واستند إلى هذه الحجة ليتجنب رفع أسعار الفوائد قبل بروز دليل واضح على أن التضخم يتجه فعلا نحو الصعود، ثم تبين أن شيئا ما قد تغير بالفعل في الاقتصاد، وانخفض معدل البطالة إلى مستويات لم تسجل منذ عشرات السنين، ومع ذلك ظل التضخم هامدا، وتمتعت البلاد بمستوى ازدهار لم تسهد مثيلا له منذ الستينيات.
لقد شهدت فترة جرينسبان حدثين كبيرين جدا، أحدهما أزمة الأسهم عام 1987، وأزمة المساكن بعد عقد من الزمان. ويرجح أن أزمة الأسهم عام 1987 عكست شدة التفاؤل بإمكانات أرباح تكنولوجيا المعلومات، والإحساس المتنامي بسلامة اقتصاد البلاد، ولكنهما عاملان أسهما معا في دفع أسعار الأسهم إلى مستويات مذهلة، وكما يشير روبرت شيلر مؤلف كتاب ''الحماسة المتهورة'' كان هناك المزيد من المغفلين الذين منحوا مستثمري الأسهم البراقة وخاصة في الإنترنت والتجارة الإلكترونية، مكاسب كبيرة.
ثم كانت فقاعة المساكن، والتي يراها المؤلف تفتقر إلى المبررات، مجرد حماسة واندفاع أحمق، فقد تخلى السوق العقاري عن قواعده التقليدية، ودخلت العائلات والأسر في الاستثمار العقاري بتهور محاولة أن تستفيد من تصاعد أسعار المنازل دون أن تعبأ بكيفية تسديد القروض التي تورطت فيها، كما أن معاملات الإقراض أصبحت أكثر سهولة، وإن كانت تتضمن أقساطا شهرية تفوق قدرة الناس. كانت قروضا مريبة أوقعت ذوي الدخل المتدني في ما يفوق طاقتهم، ولكن لماذا تساهل المقرضون في شروطهم؟ كانوا مقتنعين أن أسعار البيوت ستواصل الصعود، ولم يكن المقرضون يحتفظون برهوناتهم بل يبيعونها لمستثمرين لم يفهموا حقيقة ما كانوا يشترونه. ورغم أن سياسة دمج الرهونات في الاستثمار وتحويلها إلى أوراق مالية قابلة للتداول ليست أمرا جديدا، ولكن جرى توسع كبير بإغراء ارتفاع أسعار المنازل التي تشكلت فقاعة هائلة انفجرت محدثة أزمة اقتصادية ومالية هائلة، وثبت في النهاية أن العواقب بعد انفجار فقاعة المساكن كانت أسوأ من كل التصورات، لماذا؟ لأن النظام المالي تبدل بشكل لم يدركه أحد إدراكا كاملا.
وكما قال المفكر الاقتصادي العظيم جون كينز ''عاجلا أم آجلا سيتبين أن الأفكار وليست المصالح المكتسبة هي ما يشكل الخطورة في التقرير بين الخير والشر''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي