تركيا .. انقلاب ديمقراطي على سلطة العسكر والمحكمة الدستورية
ستكون تركيا غدا الأحد على موعد مع الاستفتاء الشعبي على رزمة التعديلات الدستورية التي اقترحتها حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة رجب طيب أردوغان، وتبناها البرلمان التركي في السابع من أيار (مايو) 2010 بأغلبية 336 صوتاً، وصادق عليها الرئيس التركي عبد الله غول في 12 أيار (مايو)، ثم أقرّ المجلس الأعلى للانتخابات بالإجماع عرضها على الاستفتاء العام.
ويشكل الاستفتاء محطة مفصلية في تاريخ الجمهورية التركية، لأن نتيجته ستكون حاسمة في اتجاه صيغة ومعادلة الحكم الجديدة في تركيا، وفي طبيعة المرحلة القادمة، التي تطمح فيها تركيا إلى لعب أدوار محورية في محيطها الجغرافي وفي منطقة الشرق الأوسط.
المقدمات
اللافت هو اختيار رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تاريخ الاستفتاء، الذي يوافق الذكرى الـ 30 للانقلاب الدموي الذي قام به العسكر الأتراك، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين في 12/9/1980، وأعدموا على أثره مئات النشطاء السياسيين، واعتقلوا الآلاف منهم، ثم قاموا بحظر الأحزاب السياسية، الأمر الذي يشي بأن اختيار يوم الاستفتاء هو محاولة من أردوغان لتصفية تركة العسكر الثقيلة، ووضع نهاية لتحكم العسكر في الوضع الداخلي التركي، بما يفضي إلى حسم مخاض الصراع، الدائر منذ سنوات في تركيا، بين العسكر والمدنيين لصالح الحكم المدني.
وكان رجب طيب أردوغان قد تعهد عند ضريح أتاتورك، قبيل فوز حزبه بانتخابات 2002، «بإحياء ديمقراطية علمانية فقدت ثقة الأمة»، واعتبر المتشددون العلمانيون كلماته التي دونها في دفتر الزيارات خلال زيارته قبر أتاتورك «خيانة عظمى» من طرفه، خصوصاً أنها جاءت من طرف رجل كان قد حكم عليه قبل فترة قصيرة من تلك الزيارة بالسجن بتهمة التحريض الديني. لكن أردوغان نجح في قيادة تركيا منذ ثماني سنوات من خلال تعميق الممارسة الديمقراطية، وقاد حركة تغيير وإصلاحات أفضت إلى ترسيخ حداثة «إسلامية»، وقرّبت تركيا من الاتحاد الأوروبي، وجعلتها تلعب أدواراً إقليمية ودولية مهمة.
ومنذ فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية، ووصوله الحكم في أواخر عام 2002، بدأ صراع خفي، ما بين المؤسسة العسكرية التركية ومن يقف في صفها من الأحزاب والمنظمات التركية وبين الحزب الحاكم ومؤيديه وأنصاره، وشكل صراعاً بين فريقين، أحدهما علماني والآخر إسلامي، حيث يعتبر الجيش التركي نفسه وريث التقاليد الأتاتوركية وقيمها، والقوة القائدة للدولة والمجتمع، أي المسؤول عن حماية الدولة العلمانية التركية، والشريك الأساسي في تجربة التحديث التي قادها مصطفى كمال أتاتورك منذ عام 1923، والمساهم الأول في توفير المناخ للتنمية والممارسة العلمانية والديمقراطية. وحين كانت تسوء الأمور في الدولة أو يهدد أسسها أي خطر داخلي، حسب وجهة نظر قادته، لم يكن يتردد في اللجوء إلى الانقلاب العسكري المباشر أحياناً، أو اللجوء إلى لغة الإنذار والتهديد أحياناً أخرى. وقد أطاح الجيش التركي بأربع حكومات مدنية، منذ ستينيات القرن الـ 20 المنصرم وصولاً إلى بلوغ حزب العدالة والتنمية الحكم التركي في عام 2002، لكنه في كل مرّة كان يعود إلى ثكناته، بعد أن يترك حكومة على مواصفاته، ويتحكم في الأمور من وراء الكواليس.
وراح قادة الجيش التركي يتخوفون من شعارات وأطروحات حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويتهمونه بإخفاء أهدافه الإسلامية، وأنه يعمل على «أسلمة» المجتمع التركي، ويمتلك قاعدة شعبية واسعة، تضم تياراً أصولياً، يسعى بكل جهده إلى تجسيد مشروعه بتحويل تركيا إلى دولة دينية، مع أن قادة حزب العدالة والتنمية صرحوا، في أكثر من مناسبة، بأن حزبهم ليس حزباً دينياً، ويقبل بالتاريخ الأتاتوركي، وبقواعد وتقاليد العلمانية التركية.
غير أن قادة المؤسسة العسكرية التركية، ومعهم قضاة المحكمة الدستورية، وعدد من الأحزاب والمثقفين الأتراك، ينظرون بعين الريبة إلى هذا الحزب، ويرون فيه خطراً يهدد أسس العلمانية التركية، ويعمل على تقويض دور الجيش، وعلى قمع منتقديه، خصوصاً وسائل الإعلام المناوئة له. وحاول قادة الجيش منع وصول عبد الله غول إلى رئاسة الجمهورية، حيث طعنت المحكمة الدستورية في قانونية الحزب الحاكم، وحاولت حظر النشاط السياسي لرئيس الوزراء ومجموعة من قادة حزب العدالة والتنمية، لكن المحاولة فشلت، بعد أن دعا رجب طيب أردوغان إلى انتخابات مبكرة، عززت نتائجها شعبية الحزب وقوته.
وكانت نقطة النجاح الأولى لحزب العدالة والتنمية في صراعه مع المؤسسة العسكرية هي فشل الإنذار الذي وجهه الجيش التركي في عام 2007، ووصول عبد الله غول إلى رئاسة الجمهورية التركية، الذي اعتبر وصوله تحدياً لإرادة قادة الجيش. وقد استند حزب العدالة والتنمية إلى نهج الاعتدال السياسي، وأثبتت سياساته الاقتصادية والتنموية نجاعتها ونجاحها، من خلال القيام بجملة من الإصلاحات الاقتصادية الفاعلة ومحاربة الفساد، ونجح في بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التأييد الشعبي الكبير الذي يحظى به مقارنة بالأحزاب التركية الأخرى، حيث يجد هذا الحزب قاعدة تأييده ليس في أوساط الإسلاميين فقط، بل لدى قطاعات رجال الأعمال والصناعيين، والمثقفين الليبراليين، وبعض منظمات المجتمع المدني.
وانتقل الصراع بين حزب العدالة والجيش التركي إلى العلن بعد اتهام بعض كبار ضباط الجيش بالتدبير والتخطيط لمحاولة انقلاب على الحكومة، والانتماء إلى منظمة سرية تدعى «أرغينيكون»، وعلى أثر ذلك شهدت تركيا سلسلة من التوقيفات والاستجوابات للضباط المتهمين، لكن الدستور التركي، الذي عدله العسكر في عام 1983، لا يسمح بمساءلة ومحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية. وعليه، شكّل الصراع مع العسكر المقدمات الموضوعية التي دفعت رجب طيب أردوغان وحزبه إلى إعداد جملة من التعديلات الدستورية، شملت 29 مادة، تتعلق معظمها بالجسم القضائي التركي، فيما أخفق في تمرير مادة واحدة، تتعلق بحظر الأحزاب من داخل البرلمان بدلاً من المحكمة، وتقضي بوضع شروط دستورية، تجعل من إمكانية حظر الأحزاب أمراً صعباً جداً، من خلال اشتراط حصول أكثرية استثنائية في البرلمان، إلى جانب موافقة ثلاثة أرباع أعضاء المحكمة الدستورية. وأصرّ حزب العدالة والتنمية على تقديم حزمة التعديلات الدستورية بالكامل للتصويت بالموافقة عليها أو رفضها برمتها، وذلك على الرغم من النداءات المتكررة من طرف منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، التي طالبت بالسماح بالتصويت على كل تعديل على حِدة.
ويبدو أن الهدف من التعديلات الدستورية هو إضعاف التحالف القائم ما بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية، من خلال إعادة تشكيل مجلس القضاة الأعلى والمدعين العامين، بشكل يتمّ فيه زيادة عدد أعضائه من أحد عشر عضواً إلى 21 عضواً، من بينهم 12 عضواً يعينهم البرلمان. أي أن التعديلات الدستورية تهدف إلى تغيير تشكيل المحكمة الدستورية، والمجلس الأعلى للقضاة وجهاز الادعاء العام، أو الهيئة التي تتولى تعيين وترقية القضاة ومدعي العموم، ولكن من دون تغيير يُذكَر في الطريقة التي يتم بها تعيين المسؤولين في هذه الأجهزة.
وتتضمن التعديلات المقترحة مطلباً قديماً للاتحاد الأوروبي، يقضي بإنشاء ديوان للمظالم، ومن دون ضمان استقلاليته، وآخر يتعلق بالعمل الإيجابي بالنساء مختلف قليلاً عن النص الموجود في الدستور الحالي. وتقضي التعديلات الجديدة أيضاً بالحد من سلطة المحاكم العسكرية، وتعديلاً يمنح موظفي الدولة الحق في المشاركة في المساومات والمفاوضات الجماعية، ولكن من دون منحهم حق الإضراب. ولعلّ أهم التعديلات المقترحة يقضي بإلغاء المادة 15 المؤقتة، التي منحت الحصانة من الملاحقة القضائية لجميع الضباط والجهات الفاعلة في النظام العسكري الذي تأسس بموجب انقلاب 1980.
وتعكس رزمة التغييرات الدستورية المقترحة من طرف حزب العدالة والتنمية محاولة لإنهاء أزمة بنيوية، تطاول طبيعة النظام التركي وتركيبته وآلياته, وتمسّ نقاط حساسة، وهي ليست مجرد عملية تعديل بعض مواد الدستور التركي فقط، بل تعبر عن صراع بين نموذجين أو نهجين مختلفين للدولة والمجتمع والخيارات والتوجهات السياسية للبلاد. ومن هنا تنبع أهمية المعركة الدستورية المحتدمة، التي تأخذ طابع الإصلاحات السياسية بنظر حزب العدالة وزعيمه رجب طيب أردوغان, في حين ترى فيها الأوساط المعارضة انقلاباً على آلية إدارة مؤسسات البلاد التي تمثل الإرث السياسي للأتاتوركية.
مواقف القوى السياسية
يعتبر رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان وحزبه، أن التعديلات الدستورية تعزز من فرص تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كونها تسهم في تحقيق «معايير كوبنهاجن» اللازمة للدخول إلى النادي الأوروبي, وذلك في إشارة إلى أنها تحظى بمباركة أوروبية غير معلنة، لكن المهم أن التعديلات غايتها تتمحور حول ترتيب الوضع التركي الداخلي، في سياق مساعي التغيير والإصلاح السياسي، التي يقودها أردوغان منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، والتي أثمرت إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي وتقليص سلطاته التنفيذية, والحدّ من الدور الذي يلعبه الجيش في الحياة السياسية لصالح الحكم المدني، وتحقيق نجاحات عديدة في الداخل والخارج.
في المقابل، تعتبر القوى المعارضة أن الهدف من التعديلات الدستورية هو سيطرة حزب العدالة والتنمية على المؤسسة القضائية، من خلال القيام بانقلاب مدني ضد الجسم القضائي، وبما يمهد الطريق أمام استكمال أسلمة الدولة والمجتمع. وترى أن التعديلات الدستورية أعدت بطريقة بعيدة عن التوافق السياسي, الأمر الذي سيكون له تداعيات خطيرة حسب «دينيز بايكال»، الذي استقال أخيرا من زعامة حزب الشعب الجمهوري، إثر فضيحة أخلاقية. أما الرئيس الجديد للحزب، كمال قليجدار أوغلو، فقد اتهم الحكومة الحالية بمحاولة إسكات كل الأصوات المعارضة، معتبراً أن التعديلات تمس بدولة القانون، ورأى «أن الهدف من هذه التعديلات ليس تعزيز الديمقراطية بقدر ما هو تعزيز سيطرة حزب العدالة على الحياة السياسية التركية ومؤسسات الدولة»، واستشهد بالمادة 35 من الدستور الحالي، التي تمنح الجيش التركي حق التدخل العسكري لحماية الجمهورية، ولم يطرحها حزب العدالة والتنمية للتعديل أو الإلغاء.
وعلى العكس من ذلك، يرى قادة حزب الحركة القومية المتشددة، ذات النهج القومي الطوراني، أن التعديلات المقترحة على استفتاء غد ستفضي إلى انفتاح كبير في الحريات الاجتماعية والشخصية، وستستفيد منها الحركة الكردية، وبما يشكل ذلك خطراً على القومية التركية. في حين أن حزب السلام والديمقراطي الكردي رفض التعديلات الدستورية، على خلفية رفض حزب العدالة والتنمية إدخال التعديلات التي قدمها الحزب، وتتعلق بخفض النسبة المطلوبة في الانتخابات لدخول الأحزاب إلى البرلمان من 10 إلى 3 في المائة، وكذلك تعديل المواد المتعلقة باللغة الأم وحق تعلمها, وإلغاء عقوبة منع ممارسة العمل السياسي عن أي فرد, واعتماد صفة التركي، وليس العرق التركي، هوية لمسألة الانتماء.
وتعاني أحزاب المعارضة التركية صعوبات كثيرة في سياق مواجهتها التغييرات والإصلاحات التي تقوم بها حكومة حزب العدالة والتنمية، وبعضها يواجه أزمات داخلية على خلفية التصويت في الاستفتاء، حيث أعلن 7300 عضو في حزب اليساري الديمقراطي استقالتهم الجماعية من حزبهم، على خلفية معارضته للتعديلات الدستورية، وأعلن زعيم المنشقين، محمد إيك، ومسؤول الحزب في إقليم موش شرق تركيا، أن التصويت بـ «نعم» على التعديلات سيسهم «في وضع أسس تركيا جديدة، من دون طغمة عسكرية، ومن دون شبكة «أرغينيكون»، وتثمّن فيها سيادة القانون ويسودها مستقبل زاهر».
أما منظمات المجتمع المدني التركية، فإنها مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في العام المقبل، تفضل منح الأولوية لخفض عتبة الـ 10 في المائة الانتخابية اللازمة لدخول الأحزاب إلى البرلمان، وبالتالي توسيع نطاق المشاركة السياسية.
وعلى العموم، يشن القوميون من أوساط اليمين وجماعات يسار الوسط حملة ضد التعديلات الدستورية، فيما تؤيدها الجماعات ذات الاتجاهات والميول الإسلامية، في حين أن الجماعات الكردية تنادي بمقاطعة الاستفتاء، انطلاقاً من عدم رغبتها في تأييد المؤسسة العلمانية أو الحكومة الحالية. يضاف إلى ذلك وجود انقسام بين اليسار الاشتراكي واليسار الليبرالي حول مقولة «إن بعض التقدم أفضل من الركود»، وينطلق المعارضون منهم من اعتبار أن إدخال تغييرات مهزوزة على الدستور من شأنه أن يحول دون الإصلاح الحقيقي في آخر المطاف.
تحييد العسكر
يعتبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن ملف التعديلات الدستورية يشكل خطوة تمهيدية نحو وضع دستور جديد بعد انتخابات العام 2011، وأبدى، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، استغرابه من «تناقض موقف الذين يقفون ضد الانقلابات ومفهوم التدخل العسكري في الشؤون السياسية، ويدعون في الوقت نفسه إلى التصويت ضد الاستفتاء»، كونه ينظر إلى التصويت بوصفه محكاً لمدى مصداقية الوقوف ضد الحركات الانقلابية، ومجابهة سافرة معها.
وأكد قادة حزب العدالة والتنمية، في أكثر من مناسبة، أن معركتهم السياسية هي مع سطوة الجيش التركي وتأثيره في الحياة المدنية، وأنهم يريدون تحييد الجيش، وجعل مهمته تنحصر في حماية البلاد من أي تهديد أو اعتداء خارجي، ويركزون على أن التعديلات تتوافق مع معايير الديمقراطية، وحقوق المرأة، والعمال وحق الموظفين في القطاع العام في تشكيل النقابات. في حين يرى قادة الجيش التركي، ومعهم المعارضون لحكم حزب العدالة والتنمية، أن مسعى الحزب هو التفرد بالسلطة، وتحويل جمهورية أتاتورك العلمانية إلى جمهورية إسلامية.
ومعلوم أن الدستور التركي خضع للتعديل مرات عديدة منذ انقلاب 1980، لكن جوهره بقي منافياً للديمقراطية، ولا يزال كذلك وسيبقى، لأن هناك من يرى من المثقفين الأتراك أن الاقتراحات الحالية لن تغير جوهره بشكل ملموس. وكانت معظم التعديلات السابقة تعتمد على اتفاقات بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، ولم تُطرَح على التصويت الشعبي. أما في هذه المرّة فقد أعد التعديلات قادة حزب العدالة والتنمية، ويريدون جعل الاستفتاء عليها مناسبة للإدانة الشعبية لانقلاب 1980 العسكري في ذكراه السنوية، وبما يفضي إلى رجوع العسكر نهائياً إلى ثكاناتهم.
ويعتبر أنصار الحزب الحاكم الجيش أكبر عقبة في طريق ترسيخ الممارسة الديمقراطية في تركيا، كونه رفض واقع التحول أو التغيير الذي جرى في تركيا، ودخل في صراع مع الحكومة، التي نجحت في قيادة الصراع، وخصوصاً بعد اتهام ضباط من الجيش التركي بالانتماء إلى منظمة سرية تدعى «أرغينيكون» تخطط، وتحضر، للانقلاب عليها، وبالتالي تمكنت حكومة حزب العدالة والتنمية من وضع بعض قادة الجيش في قفص الاتهام، من خلال تحقيقها اختراقاً للمؤسسة العسكرية، ونجاحها فيما سمي «حرب الوثائق»، التي كشفت عنها، وتدين بعض الضباط بالتآمر عليها، الأمر الذي أثّر سلباً في سمعة المؤسسة العسكرية في الشارع التركي، بعد أن كانت تحظى بتأييد الغالبية العظمى من الأتراك. ومع ذلك فإن الجيش التركي يملك أوراقاً قوية في مختلف مفاصل الدولة، وليس من السهل تحمّل التصعيد معه، ذلك أن الاستخفاف بقدرته قد يفضي إلى نتائج عكسية على الحكومة، كما أن فقدان الثقة به، والتوجس منه، يصعّب وضعها، ويقلل من قدرتها على التحرك الداخلي بحرّية، خصوصاً أنه سيسعى إلى تعطيل قرارات وخطط الحكومة بقرارات دستورية، وذريعته جاهزة في هذا المجال، وتتمحور حول مقولة عدم تماشي قرارات الحكومة مع الوجهة العلمانية للدولة التركية.
ويدرك قادة حزب العدالة والتنمية جيداً قوة ووضعية المؤسسة العسكرية، وطبيعة علاقتها القوية بالأحزاب القومية والعلمانية التركية، وسبق أن قدمت الحكومة التركية تنازلات أمام ضغط القوى المعارضة لها، وخصوصاً في الجانب المتعلق بالقضية الكردية، حيث غيّرت من برنامجها الذي كان يفضل التعامل السياسي مع أكراد تركيا، من خلال التعامل معهم من منظور تنمية مناطقهم المهملة وإدماجهم في المجتمع التركي، حتى إن اقتضى ذلك الاعتراف ببعض الحقوق الثقافية والسياسية، لكنها اضطرت تحت ضغط الأحزاب القومية إلى التضييق على الأحزاب، التي تنظر إلى المسألة الكردية من منظور حقوق الإنسان، واضطرت تحت ضغط جنرالات المؤسسة العسكرية إلى التعامل بالقوة والمواجهة الدامية مع مقاتلي وأنصار حزب العمال الكردستاني، وشنّ الجيش معارك عديدة ضدهم في شمال العراق وجنوب شرق تركيا.
مستقبل علاقات تركيا العربية
لا شك في أن نتيجة الاستفتاء الإيجابية على التعديلات الدستورية تحظى بأهمية مميزة لدى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحزبه، كونها تشكل مفصلاً مهما في مسيرته السياسية وتطلعاته المستقبلية. وقد عمل الحزب بكل ما لديه من أجل الانتصار في هذه المعركة، خاصة في ظل قناعته الدفينة بأن الدستور الحالي لا يتناسب وأداء السياسة التركية في الداخل والخارج، بمعنى أنه لم يعد مناسباً للرؤية المستقبلية للدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، حيث يتطلع قادة الحزب إلى بناء علاقات مميزة مع البلدان العربية.
وقد شرع أردوغان فور وصوله إلى رئاسة الوزراء بالانفتاح على البلدان العربية، بدءاً من سورية وصولاً إلى بلدان الخليج العربي ومصر، حيث لعبت تركيا دور الوسيط بين سورية وإسرائيل في المفاوضات غير المباشرة، التي توقفت بسبب العدوان الإسرائيلي على عزة في نهاية عام 2007. ثم تنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط بعد توطد علاقاتها مع سورية، حيث امتد التحرك التركي الملف الفلسطيني بالتنسيق مع مصر، وطاول دورها العراق ولبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وسواها. وأفضى تنامي الدور التركي إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهمة معها، حيث أبرمت حكومة حزب العدالة اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع سورية ولبنان والأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي، لذلك يمكن القول بأن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في عام 2002، شكّل نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البلدان العربية، ويكفي النظر إلى تطور العلاقات مع سورية، بشكل حوّلها من بلد معاد إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، وتمّ الشروع بتطبيقها عام 2007، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الأخرى.
وتحظى تركيا بصورة إيجابية لدى شرائح عربية واسعة، تبدي إعجابها بالنموذج التركي، الذي نجح في حلّ إشكالية الدين والدولة وإشكالية التداول السلمي للسلطة، إلى جانب نجاحات تركيا الاقتصادية، وبالتالي تستند تركيا إلى تقبل دول المنطقة للتعاون معها، بسبب الموقع والذاكرة التاريخية المشتركة، وباعتبارها قوة جذب جديدة قد تقدم بديلا لأدوار قديمة، الأمر الذي يمنحها مكانة جديدة، ودوراً مهما في لعبة التوازنات والتناقضات الإقليمية، ويجعلها شريكا فاعلاً في رسم السياسات في المنطقة.
ويشكل نجاح حزب العدالة والتنمية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية نجاحاً لسياساته وعلاقاته الخارجية أيضاً، خصوصاً مع البلدان العربية، وسيقوي من صورة تركيا كنموذج ناجح في المنطقة متجاوز لحالة الأفق المسدود في بلداننا العربية، حيال الإصلاحات الديمقراطية والتنمية الإنسانية. أما في حال فشل حكومة حزب العدالة والتنمية في تمرير التعديلات الدستورية، فإنها ستتلقى ضربة قوية، وسيفضي إلى انتكاسة التغيير والإصلاحات التي يقودها رجب طيب أردوغان وحزبه، وستكون للفشل إرهاصات على مجمل السياسة التركية، وبالأخص على مستقبل علاقات تركيا العربية.