من يتوكل على الله فهو حسبه

إذا بقينا في رحاب حُسن الظن الإيماني لوجدنا للتوكل شأنا عاليا، خاصة وأننا لا نزال نسمع ونرى تخبطا في فَهم معنى التوكل، وخلطا عجيبا بينه وبين التواكل! وستقتصر مقالتي هذه على «التوكل» الذي يعني في اللغة: الاعتماد على الغير، وفي الشرع: حال للقلب ينشأ عن معرفة بالله، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لن يكون، ويشرح لنا ابن القيم درجات التوكل فيقول: أولا معرفة الله وصفاته وقدرته، ثم إثبات الأسباب ورعايتها مع رسوخ القلب في مقام التوحيد واعتماده على الله وحُسن الظن به والتفويض إليه. فكمال التوحيد لا يحصل إلا بكمال التوكل على الله القائل: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة:23)، لتصبح منزلة التوكل في أعمال المسلم كمنزلة الرأس من الجسد، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى؛ ولذلك نجد أن أعظم درجات التوكل توكل الأنبياء، فإبراهيم ـــ عليه السلام ـــ توكّل على الله فكانت النار عليه بردا وسلاما، وسيرة الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، ومن أسمائه «المتوكل»، مليئة بعجبٍ في التوكل، وهو القائل: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» (أحمد)، لا بل، ومن سيرته ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أنه أدخل يد «مجذوم» (الجذام: مرض خطير معدٍ) معه في القصعة (وعاء للأكل) ثم قال: «كُلْ ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه»! (أبو داود).
فالتوكل عبادة عظيمة؛ لا يجوز صرفها لغير الله، إنْ في الرزق أو النُصرة أو الشِّفاء، وكذلك في دفع السوء والضر، وأن يعتقد المُتوكِل جازما بأنه لا معطي ولا مانع غير الله القائل: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 79 ـــ 80) و(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه) (الطلاق:3)، عوضا عن التوكل على البشر في قضاء الحوائج.. قال ابن القيم: «من صَدَقَ توكله على الله في حصول شيء ناله».
وإذا تجاوزنا مسألة الشرك الأكبر، كالتوكل على هذا وذاك في إنزال مطرٍ أو رزق، أو الشرك الأصغر، في دفعهم لأذى، فإن العلماء يتفقون على: أن توكل المسلم على غير الله قد يخرجه من الملة إذا تعلّق بغير الله في طلب نفع أو دفع ضر، إذ إن المتوكل حين يتوكل على الله فهذا توكيل عام لله، والمتوكل كحال الطفل الذي لا يعرف غير أمه، فلا يلتفت قلبه إلى التوكل، بل إلى المتوكل، كالميت بين يدي الغاسل لا يفارقه.
يبقى أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ولا ولدا! فالمتوكل إن أراد رزقا فعليه بالعمل، وإن أراد ولدا فعليه بالنكاح، وإن أراد زرعا فعليه ببذرٍ جيد.. ولكن الشرّ كله في الاعتماد على الأسباب وحدها، ونسيان المُسبّب وهو الله سبحانه، أما توكيل هذا أو ذاك في شراء أو بيع فلا حرج فيه، فهنا توكيل وليس توكلا.
ولي دمعات حبيبات مع قصة سأوجزها لكم: حُكيَ أن حاتما الأصم كان مُعدما وكثير العيال، متوكلا على الله، فاستأذن أولاده للحج، فاعترضوا؛ مبررين فاقتهم، ولكنهم عادوا وأذنوا له بعد سماعهم لعبارات واثقة بالله خرجت من في أختهم الصغرى.. فخرج حاجا، لكنهم عادوا وندموا لسماحهم له بالحج وهم جياع! فتضرعت الأخت الصغرى إلى الله ألا يخجلها أمامهم وقد وثقت به.. وبينما هم كذلك، بين نادمين ومتضرعة، وإذ بالأمير، بعد أن خرج متصيدا وانقطع عطشانا، يمر بهم يستسقيهم فسقوه، فنادت الزوجة ربها: إلهي! البارحة بتنا جياعا واليوم يقف على بابنا الأمير يستسقينا؟ أما الأمير، وعندما علم بحالهم أعطاهم مالا جزيلا، هنا بكت الأخت الصغرى قائلة: سبحان الله البارحة بتنا جياعا فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا، فكيف بالكريم إذا نظر إلينا؟ فإنه لا يكلنا إلى أحد طرفة عين.. ودعت الله أن ينظر إلى أبيهم، الذي خرج مع قوم مَرِضَ أميرهم فدخل عليه الأب ودعا له فعوفي! فأمر له بمركب ومأكل ومشرب، فنام مفكرا بعياله، فقيل له في المنام: «يا حاتم من أصلح معاملته معنا أصلحنا معاملتنا معه»، ثم أُخبر بما كان من أمر الأمير مع عياله، فلما رجع استقبل أولاده قائلا: «من يتوكل على الله فهو حسبه».
إن التوكل من حُسن الظن بالله، والتواكل سوء أدب مع الله! نحن في حاجة إلى صدق التوكل ونبذ التواكل والاستعانة بالتوكيل.
وأقول: إن للتوكل الحق سحرا في النفس يجعلك تمشي على الماء وتعانق السحاب وأنت لا تهاب إلا رب العباد! فالتوكل من أعظم الأعمال القلبية المؤدية إلى الطمأنينة والقوة والثقة بالله سبحانه وتعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي