تأملات رمضانية «مصيبة التدخين»! (3 من 4)

الصيام، فضلا عن أنه عبادة، نتقرَّب بها إلى المولى، عزَّ وجل، فهو رياضة نفسية متفرِّدة، ومقياس للقدرة على تربية الإرادة القوية؛ وتكوين العزيمة الصارمة، ويعوِّد الصبر،‏ ويحرِّر الإرادة الإنسانية من استعباد الأهواء والعادات والشهوات‏؛ فإذا استقام للصائم أن يصل إلى قوة الإرادة، وصرامة العزيمة؛ فقد دانت له نفسه، وتحكّم فيها، راغبا في تحصيل مراضي الله، وتجنب مساخطه، عزّ وجلّ. وهذا معنى التقوى، التي لا سبيل إليها ولا مطمع فيها إلا من هذه السبيل، وهو ما انطوى عليه تذييل الآية القرآنية التي تحض على الصوم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
تلك هي حكمة الصيام التي تعود ثمراتها على الفرد في نفسه، بما تجعله حريصا على تقوى الله بفعل ما يرضيه وترك ما يغضبه‏..‏ لذلك يكون هذا الشهر المبارك، فرصة للإقلاع عن كثير من العادات السيئة، والانتصار على الشهوات، وعلى رأسها مصيبة التدخين، التي انتشرت بين شبابنا وفتياتنا من البنين والبنات؛ لأن الصائم يترك التدخين ثلثي اليوم، تقريبا دون أن يصيبه ضرر‏، فليكن ذلك مشجعا له عل‍‍ى تركه في الثلث المتبقي ما بين الإفطار والإمساك‏!
ويبدو أن المدخنين والمدخنات لم يعدوا يأبهون بالأخبار المتطايرة المشؤومة بشأن ضحايا التدخين؛ وصارت عندهم مناعة كثيفة حول أي خبر، تثير الدهشة والاستغراب والتعجب، بالإصرار على التدخين، وتعمّد تجاهل التحذيرات، ووقائع ونتائج الحالات الخاصة بذلك.
فلقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك احتواء دخان السيجارة على 4000 نوع من المواد الكيماوية الضارة، 60 منها مسرطن، فضلا عن مواد أخرى سامة للجسم البشري، منها: أول أكسيد الكربون، الفحم، الزرنيخ، الرصاص. وباتت آفة التدخين، أخطر من وباء الإيدز على مستقبل البشرية، فتشير الدراسات إلى أنها السبب في قتل ‏ثلاثة‏ أشخاص في العالم كل دقيقة‏،‏ كما كشفت عن أعداد ضخمة من المدخنات، تقدّر بنحو ‏200‏ مليون امرأة مدخنة في العالم؛ ما يعني أن يرث الأطفال جينات التدخين من الأمهات ما يسبّب حتما تأثر أجيال متعاقبة ليس فقط بالتدخين السلبي الذي يسبب الموت الفجائي للأطفال وأمراض القلب والشرايين والأوعية الدموية ومشكلات الربو والتهابات الجهاز التنفسي‏،‏ ويتسبب أيضا في ضعف مناعة الأطفال وزيادة فرصة إصابتهم بسرطان الرئة‏!
في المملكة، التي تُصنَّف كرابع أكبر دولة مستوردة للسجائر في العالم من حيث عدد المدخنين المواطنين والمقيمين، وتحتل المرتبة الـ 23 بين الدول الأكثر استهلاكا للتبغ ـــ يبدو أن قضية التدخين فيها أكثر تعقيدا مما نتصور، فقد أشارت دراسة حديثة، أجراها الباحث سلمان العمري، ضمّنها كتابه: (ظاهرة التدخين في المجتمع السعودي)، إلى ارتفاع عدد المدخنين في البلاد إلى عشرة ملايين مدخن، ينفقون نحو 21 مليار ريال سنويا على التدخين. وأظهرت هذه الدراسة أن إغراء وتشجيع الزملاء والرفاق للشبان جاءت في مقدمة دوافع التدخين بنسبة 37.9 في المائة؛ فالتجربة الشخصية بنسبة 26.12 في المائة؛ ثم تقليد أحد أفراد الأسرة بنسبة 22.61 في المائة؛ فالرغبة في زيادة الثقة بالنفس وتأكيد الذات بنسبة 16.21 في المائة.
ووفقا للإحصاءات الرسمية؛ فإن 45 في المائة من المدخنين في السعودية في سن 15 عاما و27 في المائة في المرحلة التعليمية المتوسطة، و35 في المائة في المرحلة الثانوية، و13 في المائة من المعلمين والمعلمات!
ولعل ما دفع مستشفى الملك فيصل التخصصي إلى الاستمرار في مقاضاة شركات التبغ، ما قدّرته إحصائيات رسمية خسائرها من علاج الحالات المرضية بين المدخنين بنحو عشرة مليارات دولار تم إنفاقها خلال 25 سنة مضت!
لذلك؛ فإن شهر رمضان، فرصة سنوية لتطوير الذات، والوصول بها إلى مستويات أرقى، بوضع الأهداف واختبار الذات في تحقيقها، وهذه دعوة للإخوة والأخوات المدخنين، لنجرّب خطوات عملية في التحدي، وليكن الإقلاع عن التدخين ميدانا لخوض التجربة التي أكّدت نجاعتها مرارا وتكرارا، لتغيير هذه العادة السلبية والسيئة، التي قد يصعب مفارقتها طوال العام بداعي ضعف الإرادة، ووهن العزيمة، بينما في رمضان، تصبح مزاعم لا رصيد لها من واقع الحقيقة!
وتبقى الإرادة حاسمةً في الإقلاع عن التدخين، والتغلب على بعض الأعراض (ليست خطيرة أو صعبة ولا تظهر عند كل المدخنين)، التي قد يعاني البعض منها بسبب توقفه عن التدخين، الذي عوّد جسمه عليه طوال سنوات عدة؛ وامتناع المدخن بكل شجاعة وجسارة في نهار رمضان، دليل على تهافت الدعاوى التي تزعم عدم قدرته على التغيير، والامتناع عن التدخين.
وهذه دعوة من القلب لجميع المبتلَين بهذه الآفة أن يقلعوا عن التدخين؛ مرضاةً لله وحرصا على صحتهم والبيئة التي نعيش فيها، قبل فوات الأوان، والوصول إلى نقطة اللاعودة...!
أخي المدخن/ أختي المدخنة، في رمضان ما زال هناك أملٌ في التغيير والإصلاح، لكل ما أفسدته السيجارة...!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي