المتدين وإشكالية الانفتاح على الآخر (5 من 10)
ثمة اعتقاد لدى المتدين, ربما يكون أصله ثقافي وتاريخي معا, بضرورة وجود صراع بينه وبين الآخر المختلف عنه, ولو تأملنا وفحصنا هذا الاعتقاد بضرورة المواجهة مع الآخر لوجدنا أنه من الصعب فهمه لأن التدين نفسه وخصوصا في الإسلام يقتضي الإيمان بالدعوة إلى الدين وكل دعوة مهما كان نوعها وشكلها تتطلب نوعا من أنواع الحوار والانفتاح على الآخرين. فمن الإشكاليات التي يواجهها متدين هذا العصر هي ممانعته إلى حد الرفض في الكثير من الأحيان إلى التواصل مع الآخرين, وهذه الممانعة إما تبرر بدوافع دينية, وإما بدوافع ظرفية أو نفسية, فكيف الالتقاء والانفتاح على من يصنف بأنه كافر أو مشرك أو مبتدع أو منحرف لكثرة ما عنده من الشركيات أو المخالفات الشرعية. أو كيف لنا بحوار وهذا الآخر ينتمي إلى طرف يعيش حالة من العداء والتآمر على الإسلام، وبالتالي فالانفتاح عليه هو شكل من أشكال المودة المرفوضة للأعداء, أو أن الأمر هو مجرد عدم ارتياح نفسي تولد عن ثقافة عامة، إما في إطار علاقة الأضعف بالأقوى أو الأغلبية بالأقلية أو غيرها من العوامل التي تتأثر بها النفوس وتنعدم على أثرها الرغبة في الانفتاح والتواصل مع الآخر.
إن مسألة الانفتاح والتواصل مع الآخر ليست بالإشكالية البسيطة في حياة المتدينين لأنها أسهمت وتسهم في خلق الكثير من المشاكل والأزمات التي تعانيها اليوم معظم مجتمعاتنا الإسلامية. فعدم الانفتاح على الآخر يقلل من فرص التواصل وربما يؤدي إلى القطيعة مع هذا الآخر, وإذا كان هذا الآخر موقعه في الداخل وينتمي إلى المجتمع نفسه فالنتيجة هي نشوء حالة من الاستقطاب والتوتر الداخلي الذي قد يشغل المجتمع عن الالتفات إلى قضاياه الأهم وربما يستغل هذا التوتر لاستدراج المجتمع للدخول في عنف وحراب داخلي, فالمجتمع غير المنفتح على بعضه هو مجتمع مسكون بالضعف والشلل والتشظي لاحقا. فالمجتمعات الحية تدرك خطورة القطيعة الداخلية وترى أن هذه القطيعة تمثل تهديدا كبيرا للسلم الاجتماعي, ولعل ما يحدث من اضطرابات اجتماعية في الدول الأوروبية تقوم بها الأقليات يعبر عن صورة من صور كيفية ما تنتجه القطيعة الداخلية من ظلم وتخندق اجتماعي قد ينتهي بذلك المجتمع إلى حالة من عدم الاستقرار, فالمجتمع المدني لا ينتظر من فئات المجتمع المتنوعة والمختلفة أن تنفتح من نفسها على بعضها بل إنها ترى أن التشجيع على الانفتاح والتأسيس لمناخات التواصل هو من أهم مسؤولياتها, فوجود مؤسسات مجتمع مدني تقوم بهذه المهمة، وتهتم بها هو ما يميز المجتمع المدني وهو الذي يعطي الحصانة من أن يتحول هذا التنوع وهذه التعددية الاجتماعية إلى وقود تشتعل به الفتن والحروب الأهلية. أما عندما يمثل هذا الآخر طرفا خارجيا, وتتسبب ثقافة عدم الانفتاح إلى حدوث قطيعة بين المجتمع والمجتمعات الأخرى فليس هناك أضر على المجتمع من أن يجد نفسه في عزلة دولية وبالأخص في عالم اليوم.
أما عن الإطار الذي تتبلور بين جنباته هذه الإشكالية، فإنه له أربعة أبعاد, فنحن إزاء إشكالية مربعة, الضلع الأول فيها ثقافي, والثاني معرفي والثالث تاريخي والرابع هو ضلع سياسي اجتماعي معا. ولما كان الحديث عن كل هذه الأضلاع الأربعة يتطلب مساحة أكبر مما يسمح به هذا المقال فإننا سنكتفي بوقفة موجزة لكل منها:
1- البعد الثقافي: هناك أمور كثيرة مبتلى بها المتدين وتندرج تحت هذا البعد, فالمناخ الثقافي العام والخاص الذي ينشأ فيه المتدين يحوي الكثير من أوجه الخلل, فحق الاختلاف هو من الحقوق المهدورة في ثقافتنا, فكل اختلاف في الرأي عندنا هو خلاف والخلاف هو فتنة وتصدع لوحدة المجتمع والجماعة حتى لو كانت هذه الوحدة هي غير موجودة أصلا في الواقع. فهذا الخوف من الاختلاف الذي قد يؤدي إلى الخلاف لم يحفظ لنا عبر التاريخ لا وحدة في الظاهر ولا في الباطن ولا في الشكل ولا في المضمون. فكيف للمتدين أن يقبل على التواصل مع الآخر وهو يرى أن في وجود هذا الاختلاف إثارة للفتنة وتهديدا لوحدة المجتمع وسلامته. وحتى عندما تظهر الاختلافات على السطح ويكون التصدي لها أمرا لا بد منه يجد المتدين نفسه وهو لا يجيد فن وإدارة التعامل مع هذه الاختلافات وتكون النتيجة هو تحول هذه الاختلافات إلى خلاف, فلو لم تكن هناك نظرة ثقافية سلبية للاختلافات لكان هناك فعلا دراية بكيفية إدارة خلافاتنا. أمر آخر وهو أن هذا الرفض وعدم الاعتراف بوجود الاختلاف جعل المتدين يهرب من الانخراط في أجواء حوارية.
2-البعد المعرفي: هناك قناعة معرفية لدى الكثير من المتدينين بأنه لا توجد هناك أمور يختلف عليها, فكل شيء له قواعده وأطره, وكل الأمور مثبتة وواضحة، وبالتالي فالمخالف إما هو ضال أو معاند وهؤلاء الأجدى معرفيا عدم الانفتاح عليهم والتواصل معهم. اعتقاد المتدين بأنه هو من يمتلك الحقيقة في كل الموضوعات بأشكالها المتعددة وأنواعها المختلفة تجعل من الصعب عليه أن يدخل في حوار مع آخر لا يعترف له بهذه الملكية المطلقة للحقيقة، بل يزداد الأمر تعقيدا شعور المتدين بأن لكلامه وادعائه قدسية لا تتوافر عند الطرف الآخر, فهو يمثل الجانب الإلهي بإطلاقياته في مقابل آخرين محدودين، لأنهم يتكلمون في حدود قدراتهم البشرية. ما لم يؤمن المتدين بأن في الدين مساحات بحجم قارات تحوي حقائق نسبية وهذه الحقائق قد تتغير وتتبدل بتبدل ظروفها والعوامل المحيطة بها, فإنه من الصعب أن ندفع بهذا المتدين إلى التواصل والحوار. أمر آخر وهو نظرة المتدين القاصرة لفكرة ومبدأ الشمولية في الدين, فشمولية الدين للحياة لا تعني أبدا أنه ليس هناك مساحات فراغ على الإنسان أن يجتهد في تغطيتها.
3- البعد التاريخي: أن أكثر ما يؤخذ على الإنسان المتدين بأن التأريخيات لها دور مسيطر على تشكيل شخصيته, هذا الاتكاء على التاريخ بالرغم من أن التاريخ هو حد الروافد المهمة للمعرفة عند الإنسان, أنتج عقلية مستقيلة تستقبل من الماضي الأفكار والآراء والحوادث والمواقف من غير تمحيص وتدقيق في مصداقيتها أو ملاءمتها للامتداد زمانيا ومكانيا, عقلية أوكلت أمرها إلى السلف لتحديد ما هو الصحيح وما هو الخطأ ولتشخيص ما هو المطلوب وما هو المرفوض, عقلية أدارت دفة الزمن لتتجه به إلى الوراء, عقلية قفزت على الحاضر وتجاهلت المستقبل وتوجهت بعقول وبقلوب أصحابها إلى الماضي, عقلية ارتضت أن تستقيل وتمنح القيادة للأموات بدل الأحياء وتستهين بنفسها وتقدس من كان قبلها. هكذا عقلية محملة بأثقال الماضي تكون غير قادرة على الانفكاك عن خلافات ومشكلات الماضي ولا تملك الإرادة لتحدد خياراتها ومن ضمن هذه الخيارات هو عدم إسقاط الآخر الماضي على الآخر الحاضر. فالتاريخ يتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية إيجاد المناخ النفسي الضاغط على شخصية المتدين في رفض الآخر وعدم الاعتراف به والانفتاح عليه.
4- البعد السياسي: كل شيء في الحياة في حاجة إلى السياسة بمعناها الواسع وهو إدارة المجتمع, فالفكرة في حاجة إلى السياسة والاقتصاد والحكم وبناء المجتمع كلها في حاجة إلى السياسة والدين ليس مستثنى في هذا الإطار، ولكن المشكلة عندما يقوى العنصر السياسي في العلاقة مع الدين وتكون السلطة للسياسة على الدين، ويصبح عندنا دين مسيس، وليست سياسة متدينة, فليس هناك خوف من سياسة متدينة تريد أن تستوحي مبادئها مثل العدالة والحرية والرحمة من الدين، ولكن الخطر من دين مسيس، لأن الدين هنا صار موظفا عند السياسة، ولا يسمح له بالحركة إلا في دائرتها، وفي إطار ما ترتأيه من مصالح. هذه العلاقة الدقيقة بين الدين والسياسة قد تجر المتدين في حال عدم وجود توازن بينها إلى دائرة السياسة, فيتحول الخلاف السياسي إلى خلاف ديني وعندها تسحب قداسة الدين على هذا الخلاف، ويكون من الصعب عندها الدعوة إلى الحوار والانفتاح على ذلك الآخر حتى ولو تجاوز الزمن مقتضيات ذلك الخلاف السياسي. فجزء كبير من إشكالية المتدين مع الآخر نابعة من أن المتدين يرفض السياسة في الظاهر إلا أنه مسيس في الداخل، وربما هو أكثر تسيسا من غيره، وإن كان من غير وعي به, وبما أن السياسة تقوم وتقعد على الخلافات والاختلافات، فإن هذا يفسر لنا بقاء ودوام هذه الخلافات والاختلافات عندنا واختفائها عند غيرنا، لأنها عندنا تلبس لباس الدين فنتوارثها ونحافظ عليها، ومن ثم نضيف عليها والنتيجة نراها بوضوح في حال مجتمعاتنا التي تزداد فيها حدة الاحتقان المذهبي والاستقطاب الفكري والاجتماعي.
هذه هي أبعاد مربع العلاقة مع الآخر، ولكن هل استوفينا الحديث عنها, بالتأكيد لا, ولكن فهم هذه الأبعاد والالتفات إليها يرشد كثيرا من الجهود المبذولة لتعميق ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر في مجتمعاتنا الإسلامية, فليس كما يعتقد البعض من أن أزمتنا هي مع الآخر الخارجي بل أزمتنا الحقيقية هي مع الآخر الداخلي وهي ربما أزمة أكبر وأشد تعقيدا بكثير من الأولى.