التمويل الإسلامي وصراع المدارس الفكرية

ما بين الانتقال من التجارب الفردية إلى الصناعة المتكاملة حصلت تطورات كبيرة ومتسارعة على العمل المالي الإسلامي، ولا سيما في العقد الأخير من الزمان حيث دخل في الصناعة كثير من المتسلقين ــ وهو حق مشروع في إطار السوق المفتوحة، لكنه يؤجج خشية الغيورين على الصناعة من متسلقيها؛ يحفز الحكومات المسلمة وغير المسلمة لإصدار قوانين وتشريعات تنظم عمل الصناعة ... إلى غير ذلك من التطورات التي ينظر إليها على أنها فتح من الله مبين ــ ولله الحمد. لكن الغريب في الأمر، أن رواد العمل المالي الإسلامي أصبحوا يعلنون على الملأ أن تصوراتهم التي رسموها للصناعة قبل عقود خلت، لم تعد موجودة وفقاً لسمو الأمير محمد الفيصل، بسبب انحراف الصناعة عن مسارها وفقاً للشيخ صالح كامل.

فلماذا هذا التباين في الرأي بين رواد الصناعة ومن ينظرون إلى تطورها على أنه مسيرة إنجاز وتوسع؟ في الحقيقة، يعد هذا التباين في الرأي مؤشراً جلياً على وجود مدارس فكرية تتعامل مع التمويل الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة.

وبغض النظر عن تصريحات أصحاب تلك المدارس الفكرية من حيث إنهم ينتسبوا إليها أم لا، إلا أن سلوكهم ومنهجياتهم في النظر إلى التمويل الإسلامي هي الحكم الفصل في تصنيفهم.

ووفقاً للعالمين باريل ومورغان أن هناك موقفين أو رأيين من حيث طبيعة التغيير على تصرفات وأعمال المنشأة، وهما:

أولاً: الموقف الراديكالي الذي يرى أن التغيير لا بد أن يكون جذرياً وحقيقياً وسريعاً لأن التغيير بهذه الطريقة يمثل الحالة المثلى المنشودة.

ثانياً: التغيير التنظيمي Regulatory، وهو التغيير البطيء الذي يستند إلى تفاعلات المجتمع المدني الديمقراطي ويلبي طموحاته في إطار الحرية المطلقة والعلمانية. وهذا النوع من التغيير هو تغيير نشوئي يستند إلى حد بعيد إلى نظرية داروين التي استخدمت في علم الاجتماع فيما يعرف بالداروينية الاجتماعية التي تبنت مفاهيم داروين حول النشوء والارتقاء، والبقاء للأفضل، والانتخاب الطبيعي، وأسقطتها على الواقع الاجتماعي على اعتبار أن المجتمعات تختار الأفضل لها ديمقراطياً وتبقى في حالة تطور دائم نحو الأفضل لها ولقيمها التي تحددها وتطورها على مر السنين من خلال تجاربها. ووفقاً لهذا النوع من التغيير تم إقحام قيم جديدة في المجتمعات الغربية وتقبلها على أنها صحيحة رغم أن الجميع يعلم مخاطر تلك القيم، ومثال ذلك قبول المجتمع التدريجي الارتباط الجنسي بدون زواج، والربا، وحب الذات ... وغيرها من القيم التي أصبحت مقبولة قبولاً عاماً على اعتبار أنها تلبي احتياجات المجتمع. وهنا تجدر الملاحظة أن الغرب يقاوم التغيير الراديكالي لأنه يتنافى مع قيمه الديمقراطية والعلمانية، وقد أثر هذا في نفوسنا حتى أصبحنا نحمل انطباعاً سيئاً عن كلمة الراديكالية دون أن نفهمها، مع العلم أن هناك عديدا من المفكرين الغربيين محسوبون على الفكر التغييري الراديكالي، حتى أن الرئيس أوباما عندما أصدر بعض التشريعات التي تنظم عمل الأسواق المالية والبنوك وصف بأنه راديكالي.

وربما يسأل سائل: ما شأننا نحن في الصناعة المالية الإسلامية بهذه الفلسفات الغربية العلمانية؟ وهنا يكون الجواب أن جميع من يتلقى العلم الإداري والمالي في العصر الحالي يتلقاه علماً غربياً علمانياً فتنغرس هذه المفاهيم والفلسفات في عقله شاء أم أبى، أو أدرك أو لم يدرك، وهذا كله بالضرورة انعكس على السلوكيات والممارسات في الصناعة المالية الإسلامية ... فطوبى لمن أدرك وأبى.

ولضرب مثال توضيحي على التغيير التنظيمي في الصناعة المالية الإسلامية، علنا نستذكر عملية إدراج عقود عمليات المرابحة على قائمة عقود العمليات المالية الإسلامية. لقد كانت في بداياتها منتجاً دخيلاً، حتى أن مجمع الفقه الإسلامي استغرق وقتاً طويلاً للمصادقة عليها نظراً لكثير من الملابسات في تطبيقاتها. الغريب في الأمر، أن المرابحة عندما ابتكرت كانت فكرة بديلة وليست أصيلة لمعالجة مشكلة السيولة في المؤسسات المالية الإسلامية .. والآن وبعد مضي قرابة 3 عقود، أصبحت المرابحة هي السمة المميزة والغالبة لعمليات الصناعة وأصبح من يتكلم عنها منبوذا وراديكاليا .. ثم تطورت الأمور في السنوات الخمس الأخيرة إلى منتج أغرب وأكثر انحرافاً عن الجوهر وهو التورق المصرفي، ثم تم دمج التورق في عقد الوكالة بالاستثمار مع حق التعاقد مع النفس ليصبح المنتج بعيد جداً جداً عن جوهر الصناعة وأهدافها، بل أصبحت تلك المنتجات المهجنة الدخيلة تشكل النسبة العظمى من عمليات الصناعة المالية الإسلامية.

ومن هنا يمكننا القول إن هناك مدرستين فكريتين للنظر إلى واقع الصناعة المالية الإسلامية:

المدرسة الأصولية (أو ما يسمونها بالراديكالية)، وهي التي تطالب بالعودة إلى الأصول وتجنب عمليات التقليد التي حرفت الصناعة عن مسارها وأهدافها، أملاً منها في إبراز الصناعة على حقيقتها وبث روحها الأصيلة فيها.

المدرسة الواقعية (أو ما تسمى بالتنظيمية) وهي تسعى إلى إيجاد حلول للمشكلات الآنية دون النظر إلى عواقبها المستقبلية، وقد أحدثت تغييرات متتالية ومتعاقبة على الصناعة استناداً إلى مجاراة الواقع ورحابة الشريعة في مواكبة المستجدات وتماشياً مع متطلبات نماذج أعمال المؤسسات المالية التقليدية التي يجب أن تتماثل معها أعمال نظيراتها الإسلامية. فتجد دعاة هذه المدرسة على سبيل المثال يؤمنون بأن عمل البنوك الإسلامية هو وساطة مالية (تماماً مثل عمل البنوك التقليدية) وعليه، فإنه يجب التماشي مع هذا المطلب، دون الالتفات إلى النظريات التي بني عليها التمويل الإسلامي واقتصاده.

إن الفكر التنظيمي الممنهج للتطوير هو السائد في علم الإدارة الغربي الذي يتلقاه غالبية العاملين في الصناعة المالية الإسلامية، ولعل أبرز النماذج التي يقوم عليها هذا الفكر وأكثرها شيوعاً هو النموذج الوظيفي Functionalist، وهو النموذج السائد في علم إدارة الأعمال وذلك لأنه لا يسعى للتغيير بل لحل المشكلات، وهو نموذج واقعي (براغماتي) يفرض على المنشآت أن تتأقلم وفقاً لمعطيات السوق، كما أنه يتناسب تماماً مع معطيات الديمقراطية والرأسمالية وحرية الأسواق.

ومن هنا يمكن لنا أن نستوعب جوهر الخلاف والجدل الدائر في الصناعة المالية الإسلامية في أيامنا هذه على أنه خلاف بين تيارين؛ أحدهما يسعى إلى إعادة الصناعة إلى جذورها الراسخة وثوابتها وقيمها وأهدافها الشاملة، والآخر يسعى إلى سحبها باتجاه ما تريده قوى السوق مع تكييف وتطويع الشريعة الغراء بما يتناسب مع ذلك. مع إيماننا بأن هناك كثيرا ممن هم من التيار الثاني لا يدركون أنهم يفعلون ذلك ... نحسبهم كذلك والله حسيبهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي