إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. لماذا القبيلة؟!

نحن السعوديين، دون أي شك، نفخر بأن معظمنا يعود إلى أصول قبائل عربية أصيلة. لكننا أيضا، وبالقدر نفسه من الفخر، نعتز بأن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ منَّ علينا بالإسلام والإيمان وجمعنا تحت راية ـــ المغفور له بإذن الله ـــ الملك عبد العزيز لنكون شعباً واحداً موحَّدا، نعيش معا على هذه الأرض الطيبةً. وإن كنا قد تربينا على الانتماء إلى فروع أصولنا القبلية من باب الاحتفاظ بالنسب والترابط الأسري، فلا يجوز أن نتمادى في الولاء لقبيلة ما على حساب التعايش بين أفراد المجتمع الكبير، فيعود بنا حماسنا إلى إثارة النعرة القبائلية والحمية الجاهلية، فنفقد هويتنا كشعب مُتماسك ومُتمدِّن. من الملاحظ في مجتمعنا أن بعضنا يُسرفون في الانتماء إلى قبائلهم إلى درجة أنهم يُقيمون المناسبات الكبيرة باسم أفراد قبيلتهم أو عشيرتهم, محصورة فيمن ينتمي إلى القبيلة، وتُلقى خلال الملتقيات القبائلية من الخُطب والأشعار ما يُثير الحماس ويتشرب منها الشباب ما قد لا يُساعدهم على الاندماج مع إخوانهم وزملائهم في المؤسسات التعليمية وفي حياتهم العملية. ونسمع أحياناً حدوث مشاجرات وتلاسن في محيط بعض المدارس بين شباب ينتمون إلى قبائل مختلفة، أي أن كل فريق يتبع أفراده قبيلة معينة، نتيجة لخلاف يكون قد حصل بين زميلين، وكل منهما يطلب المساعدة من أبناء قبيلته لمناصرته. ولو حصل خلاف مشابه بين رجلين من قبيلتين مختلفتين ووصل الأمر بينهما إلى حد التطاول بالأيدي أو السلاح الأبيض ـــ لا قدر الله ـــ لهبًّ كل طرف للاستنجاد بأبناء قبيلته، وهو أمر غير مقبول على الإطلاق في زمن الأخوة والأمان والحاجة إلى التعاون والتماسك بين أفراد المجتمع الواحد تحت ظل حكومة رشيدة تعمل جاهدة من أجل خير المواطنين ورفاهيتهم دون تفريق أو تفضيل بين القبائل والطوائف وبقية أفراد الشعب الذي يتكون منه المجتمع السعودي.
وهناك عادات اجتماعية وعائلية كثيرة غير مرغوبة ولا تتلاءم مع الحياة العصرية، لكن معظمنا يُحاول التمسك بها كجزء من الارتباط القبائلي, فلا يزال بيننا من يُصرُّ على تزويج بناته لأبناء العم دون غيرهم أو ابنه لبنت العم، حتى لو وصل عمر البنت إلى العنوسة، وهو ما يؤسف له. ومعروف اجتماعيا وطبيا أن زواج الأقارب ربما ينقل كثيراً من الأمراض ويؤدي إلى حدوث بعض التشوهات الخلقية بين الأبناء عن طريق الوراثة، ومع ذلك فإننا نجد من أبناء الشعب منْ يُصر على عدم ترك مثل هذه العادات، التي ربما كان لها في الماضي ما يُبررها عندما كانت القبائل تعيش في انعزال عن بعضها. أما اليوم، فمن مصلحة الجميع أن يكون التزاوج والتقارب بين أفراد المجتمع الواحد سيد الموقف من أجل أن يزيد ذلك من ترابط الأسر المختلفة وتقل الأمراض والعاهات الوراثية في الأجيال القادمة. وليست هذه دعوة إلى تزويج شبابنا وشاباتنا إلى أي إنسان يتقدم إلى ربِّ الأسرة، بل يكون التزويج حسب الأعراف والمستويات الاجتماعية، وللأسرة أن تختار الزوج والزوجة ممن يرضون دينه وخُلقه.
ولك أن تتخيل ما الذي سيحدث لهذا المجتمع من الخلافات والمنازعات والتشكيك في النيات لو تقرر في يوم ما أن تكون عندنا انتخابات عامة لمراكز حساسة، ونحن لا نزال نمارس الولاء كل لأبناء قبيلته؟! من الطبيعي أن يختار كل أبناء قبيلة أو عشيرة أبناء عمومتهم، كما هو حاصل اليوم في بلدان مجاورة، بصرف النظر عن مستوى الكفاءة والخبرة عند المرشحين الآخرين. وليس في مصلحة مستقبل الأجيال أن يستمر الوضع الحالي على ما هو عليه، وعلينا أن نبحث عن حلول مناسبة وإجراءات معينة يتم تطبيقها بالتدريج حتى لا تُثير ردود فعل غير مقبولة. ومن الملاحظ أن كثيرين من أبناء شعبنا ينتهي اسم الواحد منهم باسم القبيلة التي ينتمي إليها، مع انتفاء الحاجة الآن إلى ذلك. وفي الغالب فإن كل فرد من أفراد المجتمع ينتمي إلى عائلة معينة، قد تكون كثيرة أو قليلة العدد، ومن الممكن أن يُكتفَى بهذه الصلة كما هي الحال مع أكثر من 50 في المائة من السكان الذين لا تنتهي أسماؤهم بأسماء قبلية. وعندما يختفي اسم القبيلة، تنتهي معها معظم التحيزات والتحزبات القبلية التي لا تُساعد على الاندماج الكامل بين أفراد المجتمع الواحد.
وهناك ـــ مع الأسف ـــ آثار سيئة كثيرة منتشرة في وسط مجتمعنا, ولها علاقة مباشرة بارتباط أكثر الأسر في المملكة بجذور قبائلية يعودون إليها في مناسبات الزواج، حيث يستثنون فئات معينة ويدًّعون أنها ليست قبلية، أي لا ينتمي أفرادها إلى قبيلة معينة. ونقول، يا سبحان الله، إذن من أين أتوا إلى بلادنا؟ نحن نعرفهم من مئات وربما آلاف السنين, وأشكالهم من جنس أشكالنا. ولعلهم نزلوا علينا من سطح القمر! أليست هذه خرافة تدعو إلى السخرية وتدل على ضحالة التفكير في عصر الصواريخ وغزو الفضاء والكمبيوتر والإنترنت؟ ألم يبلغ بنا النضج الفكري والاجتماعي إلى مستوى الإنسان السوي الذي نفخ الله ـــ عزَّ وجل ـــ فيه من روحه؟ وما يدعو إلى الاستغراب والعجب، أن أولئك الذين يرفضون ربط نسبهم بعائلات معينة، على أساس أن تلك الفئة من المجتمع ليس لها أصول قبلية، لا يُمانعون في مصاهرة عائلات أمريكية أو أوروبية أو تركية، أو من أي دولة عربية لا تعرف معنى القبلية .. هل هناك تفسير منطقي؟ ألم نقل إنه لا مكان للقبلية في هذا العصر الذي يتحتم علينا فيه أن نكون أمة واحدة مُتحابة وعلى قلب واحد، حتى نتغلب على التحديات العلمية والاقتصادية الجسيمة التي تواجهنا في عصر التكتلات العالمية، بدلاً من التفرقة والانقسامات التي تسود مجتمعنا بسبب هذه الانتماءات والتمسك بعادات موروثة عفى عليها الزمن. وعلى الرغم من أننا ندين بدين الحق والمساواة ونؤمن بقول ربنا ـــ جل شأنه ـــ في القرآن الكريم : ''إن أكرمكم عند الله أتقاكم''، إلا أننا نتغافل ونتقاعس عن تطبيق هذا التوجيه الرباني في شؤون حياتنا، ونحرص, وبكل فخر, على بقاء ممارسات بالية أوجدت لنا خصوصيات أصبحت تقف حجر عثرة في طريق تقدمنا وفاعليتنا كمجتمع متماسك ومتضامن.
ويتبادر إلى الذهن أهمية دور العلماء وخُطباء المساجد في توعية المواطنين وتوضيح مميزات التماسك بين أفراد المجتمع الواحد واحترام الآخر. لكن المرء يُصاب بصدمة عنيفة عندما يتذكر ذلك الحكم الجائر الذي صدر في حق زوجين اقترنا برضاهما ورضى والديهما وفرق بينهما القاضي الشرعي على أساس عرقي قبلي، دون مخافة من الله ولا احترام للشعور والعواطف الإنسانية والتعاليم الدينية.
وكنا قد سمعنا منذ سنوات أن الدولة ـــ حفظها الله ــــ كانت مهتمة بهذا الموضوع, وأنها ربما تطلب من المواطنين حذف ما يُشير إلى الانتماء القبلي من أسمائهم في جميع المعاملات الرسمية، كبطاقات الأحوال والجوازات والتسجيل في المؤسسات التعليمية. ونظراً لعمق جذور الروابط القبلية في مجتمعنا وارتباطها بالبيئة والعواطف، فلن يكون التحول عنها أمرا سهلاً على الأجيال الحالية, ولذلك، فلعله من الأفضل أن يكون تغيير الاسم القبلي اختياريا لفترة من الزمن حتى يُصبح أمراً عاديا ومقبولاً لدى الفئات المعنية. وإذا نجحت الفكرة، فمن الممكن أن يُتبع ذلك بعد مضي الوقت المناسب بتغيير يشمل الأطراف المتبقية من المواطنين، ونصبح جميعنا شعباً متجانساً، كبقية الأمم، لا فرق بيننا إلا بالتقوى وخدمة الوطن والأمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي