التعويض عن مصروفات الدعوى .. «أضرار التقاضي» (2 من 2)
تحدثنا في المقال السابق في مسألة التعويض عن أضرار التقاضي وما يلزم على ذلك من مصروفات الدعوى ونحوها. وليعذرني القارئ الكريم على التفصيل في هذا الموضوع وطوله؛ وذلك لأني رأيت أثر هذا من خلال الحياة الواقعية للعمل القضائي والمشكلات والتبعات التي تتولد من القضايا، فبعض القضايا الكيدية تتفرع لقضايا أخرى كردة فعل، وبعد مضي سنوات من إشغال المحاكم بمثل هذه القضايا يتبين أن الدافع الأساسي لها الانتقام والتشفي وليس فيها طلب حق ضائع أو دفع ضرر قائم، وهذا كله فيه إشغال للسلطات القضائية، سواء كانت في المحاكم العامة والجزئية التابعة لوزارة العدل ــ حاليا ــ أو المحاكم الإدارية في ديوان المظالم. وتحدثنا في المقال السابق عن التكييف الفقهي والنظامي لأحقية التعويض عن أضرار التقاضي والتطبيقات الفقهية التي نص الفقهاء عليها قديما في حوادث وتطبيقات متفرقة، وبقي القول عن شروط استحقاق التعويض.
وأهم شروط التعويض لأضرار التقاضي ومصروفات الدعوى ما يلي:
الشرط الأول: كسب الدعوى، فلا يختلف الفقهاء وشراح الأنظمة على أن التعويض لا يكون إلا لمن يكسب الدعوى، وهو من يكون الحكم لمصلحته، سواء كان الكسب كليا بكامل الطلبات أو جزئيا، وأن من يخسر القضية هو من يتحمل النفقات.
الشرط الثاني: ثبوت الضرر، فمتى ما وجد الضرر وجد التعويض، ويثبت الضرر بالأدلة والبراهين، سواء كانت بالمستندات الرسمية أو العرفية أو حال أصحاب الدعوى أو تقرير جهة خبرة محايدة وغيرها من وسائل الإثبات المقررة في الشرع والنظام.
الشرط الثالث: واقعية أسباب الضرر، فيلزم أن تكون أسباب الضرر واقعية ومعقولة بأن تكون متناسبة مع واقع الدعوى وحجمها وواقع صاحب الشأن وحالته المادية والاجتماعية وكل الظروف المرتبطة بالقضية والمؤثرة فيها، وهذا الشرط يقضي على ظاهرة العقود الوهمية التي يفعلها بعض المحامين مع أصحاب الدعوى من أجل طلب مبالغ كبيرة بحجة مصروفات الدعوى، وأذكر أن أحد المدعين ووكيله المحامي طلبا مبلغ خمسة ملايين ريال في قضية موضوعها طلب صرف علاوة وظيفية، واستندا في ذلك إلى العقد المبرم بين الطرفين، واللافت للنظر أن كل مبلغ المطالبة لا يتجاوز عشرة آلاف ريال.. فكيف تكون مصروفات الدعوى خمسة ملايين ريال؟!
الشرط الرابع: انتفاء العذر في الإلجاء إلى رفع الدعوى، ومعنى هذا الشرط تعذر الوصول إلى الحق إلا عن طريق رفع القضية، بحيث إن صاحب الحق لا يمكنه الحصول على حقه بالطرق الودية.
والتعويض عن أضرار التقاضي يشمل الأضرار المعنوية مثل الابتذال والامتهان بالإحضار إلى مجلس القضاء والانتظار فيه والاستدعاء بالشرطة وغيرها، وتشويه السمعة أمام الأسرة والعائلة والناس وتضييع الوقت بالتقاضي أو التعويض عن الأضرار المادية، مثل: مصروفات الدعوى الرسمية في الدول التي تطبق الرسوم في التقاضي، وأتعاب المحاماة وأتعاب الخبراء وهيئات النظر ومصروفات الشهود ومصروفات الحضور إلى محل الدعوى في الدعاوى الكيدية ومصروفات السكن، وغير ذلك مما يراه القاضي ناظر القضية.
وتقدير التعويض عن أضرار التقاضي يعود إلى المحكمة التي تفصل في الموضوع، وهي سلطة تقديرية للقاضي، وتحكم بها المحكمة ولو لم يطلب ذلك منها، هذا عند رأي الأغلبية، وهناك من قال بعدم الحكم إلا عند طلب صاحب الشأن، والأمر عندي متروك للاجتهاد القضائي، بمعنى أنها سلطة تقديرية للقاضي. ويمكن للمحكمة أن ترجع في ذلك إلى من تراه من أصحاب الخبرة وأهل النظر.
ولعل فيما سبق إشارة عامة إلى العناصر الأساسية لهذا الموضوع، الذي أصبح حاجة ملحة لعموم الناس، وأيضا للجهات القضائية التي أصبحت القضايا فيها تزداد يوما بعد يوم، خاصة مع تزايد التعداد السكاني وتداخلهم وانتشار التجارة وسرعتها مدعومة بالتقنية الحديثة. إن حاجة الناس اليوم إلى مثل هذه الإجراءات والأحكام باتت ماسة في عملية التطوير القضائي ما دامت تستند في تكييفها القضائي إلى الشرع المطهر والتجربة القانونية؛ ولذلك فإن التطوير القضائي يجب أن يطول الاجتهاد القضائي والظروف المحيطة بالقضاء المحلي والدولي، إذ إن تغير الظروف والأحوال عامل مؤثر في تغيير نمط الاجتهاد وطريقة الإجراءات المساندة للعمل القضائي، وكلما كان الاجتهاد قريبا من الواقع الفعلي لحياة الناس وهمومهم كان أدعى لتنظيم العمل واستقراره بصورة متزنة بين الجهات القضائية وحاجات الناس اليومية، ورحم الله ابن القيم الجوزية عندما قال: ''ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله''. (أعلام الموقعين) 1/88.