نحن والسفر
يحفظ أغلب الناس لجدنا الإمام الفقيه الشاعر الشافعي شطرا من الشعر: (سافر ففي الأسفار خمس فوائد) وقال غيره سبع فوائد لكنهم ينسون تتمة الشعر وهو:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
ربما يبدو جدنا الشافعي مقلا في حصره الفوائد بخمس ومثله صاحب السبع فوائد غير أنه إقلال أملته ثقافة ذلك الزمان ولم يتعمده حيث لم تكن السياحة من منتجات عصره ولا في قاموسه إنما ماذا لو كنت أنت (حشريا) ووقفت عند بوابة السفر في مطاراتنا وأخذت تسأل الناس كبارا وصغاراً: لماذا يسافرون وسألتهم عن هذه الفوائد؟ تراك تجدها أو تجد بعضها حاضرة في الذهن؟ قد تجد فئة قليلة جدا تبادرك بأنها تسعى إلى ما يشابهها غير أني لا أخالك ستجد ( طلب العلا) بالذات على البال كما لا أخالك تحظى بهذه الفوائد الخمس أو السبع بل بفوائد أخرى رجراجة مبهمة يتجاوز عددها المئات أو الألوف، قاسمها المشترك (تفريج هم) أو ما نطلق علية (الوناسة)!
إن الناس يسافرون لأنهم فقط يريدون أن يسافروا لـ (تغيير الجو) أي (تفريج الهم) وكل واحد يفهم مسألة (التفريج) ويحسها أو يريدها على طريقته غير إن السؤال يبقى ملحا: لماذا نسافر؟!
بعيدا عن الفوائد فالسفر عندنا تحول بفعل حضارة الاستهلاك إلى نشاط أو سلوك استهلاكي، فمثلما نبدل أثاث منازلنا وملابسنا وشؤون حياتنا المختلفة نمارس الشيء نفسه مع السفر فنبدل الأمكنة تحت ضغط الوفرة لدى البعض وتحت ضغط التقليد والمجاراة لدى بعض آخر والأمر في الحالين هروب بالجسد إلى مكان آخر، وقد أحسنت الكاتبة الرائعة غادة السمان التوصيف حين اعتبرت (الجسد حقيبة سفر) وهو عنوان أحد كتبها.
لكن ماذا يحدث لحقيبة السفر (الجسد) حين نشحنها بالطائرة عبر مطارات العالم ورجال دركه وجماركه وجوازاته؟ لا بد أنك تأملت فوضى الحوائج المكدسة المخزونة في حقائب سفرك: هذا نريده، هذا قد نحتاج إليه، ذاك يلزمنا وذلك ربما ... إلخ وهكذا، ما أشبه نفوسنا بحقائب السفر.. مكتظة مثلها لكن بمشاعر شتى غامضة ممزقة بين الفرح بالسفر والرهبة منه، هناك في أعماقنا تناطح صامت بين الحنين للمكان الذي تركناه قبل لحظات وتوجس من المكان الذاهبين إليه، هذا العراك ليس فقط بين شعورين متقابلين بل بين مشاعر وأحاسيس متناقضة مقلقة نطفئها إما بالحديث لبعضنا بعضا أو مع الآخرين لسد فوهة بركاننا الداخلي، نفعل ذلك إلى أن نصل لمحطتنا المقصودة، عندها نترك لفوضى الرغبات المتقاطعة تخبط بنا في كل اتجاه قد لا يكون بينها ما نرغب فيه حقا، ومع الأيام تصبح حقيبة السفر (الجسد) مبعثرة، مدعوكة كمحتويات الحقيبة الحقيقية نفسها.
يحدث هذا لنا لأننا جعلنا السفر حالة استهلاكية نبدده ويبددنا تماما مثلما نتسوق ونرمي بجل ما تسوقناه رغم أنه يشكل هدراً على حسابنا، وطبعاً تظل أسطوانة السفر هذه تدور عند كل إجازة فالأهم أن نسافر، ذلك أن حالة استهلاكنا للسفر ناجمة عن عدم تقديرنا لأهميته، لأن السفر بمفهومه الشعوري لم يكن من ثقافتنا وإلا لأصبحنا عارفين إلى أين ينبغي أن تكون وجهتنا ولماذا ومتى..؟؟ لا أن نلهث في الساعات الأخيرة بحثا عن مقعد في الطائرة وبلد نذهب إليه كيفما أتفق..!
لو أنك تركت الفوائد جانبا وسألت الناس عن برامجهم وخططهم في البلد الذي يزمعون الذهاب إليه لوجدت إجابة شبه جماعية: (خل ناصل، وبعدين يحلها ربك) وكم نذهب، وكم نصل، وكم نعود لكن دائما نعود مكدودين مكدرين بحاجة إلى إجازة من الإجازة، لأننا بدل أن نستمتع ونستجم ونلهو نترك للسفر نفسه أن يلعب بنا، نصبح نحن لعبة السفر أو كما قالت فيروز بكلمات سعيد عقل:
قد غبت عنهم ومالي في الغياب يد
أنا الجناح الذي يلهو به السفر!!