الفنون تستثير رقابة الدولة في سنغافورة
بينما يستمر إيراد الحجج بأن الرقابة ضرورية لحماية الأخلاق في المجتمع، فإنها ستظل، كما كانت عليه في السابق، قضية تتعلق بالسلطة. وإنها ذلك النوع من السلطة التي لا تكتفي فقط بالقضاء، من خلال استخدام القوة، على القيم والأفكار البديلة، وإنما تعمل كذلك على تعزيز القيم والأفكار البديلة، إضافة إلى تعزيز القيم والأفكار المهيمنة، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن صحتها، نظراً لأن القيام بإبعاد البديل يعد, في حد ذاته، دفاعاً عن الوضع القائم.
تعد كل دولة بدرجات متفاوتة نفسها حارساً على مصالح المجتمع، وتمارس أشكال الرقابة كإجراء مشروع ضمن حدود سلطاتها. وتبرر كل ذلك بالحرص على صيانة الذوق العام والانسجام الديني والعرقي. وتبدي بذلك علامات على استعدادها لممارسة السلطة، ولو بأساليب عنيفة، كما أنها تظهر للعاملين في الفن أنهم ليسوا بعيداً عن متناول يديها.
لقد عملت الإنترنت ووسائل إعلام جديدة أخرى على تحدي الدور الذي تقوم به الدول كحامية للشأن العام خلال السنوات القليلة الماضية. وأتاحت هذه الوسائل الجديدة فرصاً واسعة لمزيد من انتشار المعلومات، والصور، وانتاج الفنون المتعددة، الأمر الذي دعا السلطات المختصة في سنغافورة إلى مراجعة دورها الرقابي، دون أن يعني ذلك بالضرورة التخلي عن دورها الخاص بما تقول إنه حماية للمجتمع.
يبدو من متابعة التقارير المستمرة لتقارير لجنة الرقابة الرسمية في سنغافورة أن الحكومات اتخذت نهجاً حذراً إزاء قضية الرقابة، حيث يتضح ذلك في تقارير أعوام 1982 و1990 و2003.
وأدت التطورات المتسارعة في وسائل الإعلام العالمية والطبيعة متزايدة الحركة للمجتمع في سنغافورة، إلى ملاحظة من جانب هذه اللجنة في تقريرها لعام 2003 «أن الحجم الذي يناسب الجميع» في مجال الرقابة أصبح غير ملائم لمجتمعنا.
انطلاقاً من إدراك هذه الحقيقة، فإن سلطة تطوير وسائل الإعلام التي هي الجهة التنظيمية الرسمية في البلاد طبقت نظام تصنيف أكثر تطوراً فيما يتعلق بالأفلام السينمائية والمسرح، حيث يتم تصنيف الأفلام في الوقت الراهن وفقاً لتصنيف من خمس فئات، بينما هناك معايير خاصة تتعلق بتصنيف المسرح. ويمثل نظام التصنيف هذا آلية متقدمة لدى الدولة التي تراعي، على نحو مستمر، الطبيعة الخاصة للتركيبة الاجتماعية متعددة الثقافات والأديان في سنغافورة.
وإن أحدث مطالبة من جانب الفنانين وصانعي الأفلام، بأن «تقوم الدولة بالتنظيم وليس الرقابة»، إنما هي محاولة لمواجهة عنف الرقابة، دون إنكار الدور التنظيمي من جانب الدولة. وتدعو هذه المبادرة من جانب مجتمع الفنون إلى نهاية للرقابة الحكومية، حيث إن الرقابة تعزز ثقافة الاتكال من جانب الجمهور، وتزيد من حالة الخوف بين المؤسسات ذات العلاقة، وتضعف شأن الرقابة الذاتية لدى منتجي المحتوى الفني، وتعني خيارات منحازة إزاء بعض الخطوط الإرشادية العامة. وتعد مبادرة أهل الفن هذه استمراراً للمطالب التي أدت إلى تطور كبير في تقرير لجنة الرقابة الخاص بعام 2003. وتأتي هذه المبادرة في توقيت مناسب قبيل ظهور تقرير لهذه اللجنة من المقرر إصداره في أواسط هذا العام.
وتريد الجهات التي تبادر إلى إحلال التنظيم محل الرقابة في سنغافورة تحقيق أهداف متشابهة، حيث تسعى جميعاً إلى صناعة ثقافية أقوى، وترى كذلك أن حظر الأعمال الفنية يجب أن يكون بمثابة الإجراء الأخير من جانب السلطات الرسمية. وتجمع كذلك على أن من شأن نظام متطور للتصنيف أن يتيح انخراط الجماهير من مختلف الأعمار. غير أنه، وكما هي حال معظم الأمور، فإن هناك تناقضات تبرز ليس على نطاق المبادئ، إنما من جانب جهات انعزالية على وجه الخصوص. وهناك تساؤلات مشروعة حول أنظمة التصنيف المتعددة، ومنها: لماذا تتوجب الرقابة على إنتاج فني تم وفقاً للتصنيف؟
إذا نظرنا إلى التاريخ الخاص بالرقابة الرسمية، فإننا نجد كثيرا من فصول المشكلات ذات العلاقات بالتعامل مع الأعراق والديانات والأعراف والأمور ذات العلاقة بالأمن القومي، وقضايا اجتماعية مثل الشذوذ الجنسي. وإذا كان عدد الأعمال الفنية التي يتم إيقاف عرضها بسبب قرارات سلطات الرقابة الرسمية أقل بكثير من عدد تلك الأعمال التي تتم إجازتها، فإن ذلك وحده لا يكفي كي يكون دليلاً على وجود مزيد من التسامح إزاء وجهات النظر البديلة، وذلك لأن إجراءات الرقابة تستطيع فرض نفسها في أي وقت.
ومن السهل بالطبع على المرء أن يتعاطف بقوة مع وجهات النظر التي يتفق معها بالفعل. ويعمل كل ذلك على تعقيد السياسات ذات العلاقة بالرقابة. وهنالك أوقات أظهرت أن مراحل من الرقابة الحكومية جاءت غير منسجمة مع الرغبات الوطنية. ومن أمثلة ذلك التوجه الخاص بجعل سنغافورة مركزاً إقليمياً مهماً للإعلام والثقافة. وتلجأ الدولة في مثل هذه الحالات إلى جعل الرقابة غير واضحة، لكن مع الاحتفاظ بمعظم شروطها ومتطلباتها.
لا يستغرب العاملون في النشاط الثقافي ظهور إجراءات الرقابة قبيل البدء بعرض عمل مسرحي ما مباشرة، حيث إن سيف التدخل مسلط عليهم في أي وقت. وهنالك إجراءات أخرى تتمثل في الأمر بإيقاف عمل مسرحي معين، وإلا فإن تمويله سيتوقف. وينظر إلى الرقابة في بعض الحالات على أساس أنها عمل يتم طوعاً من قبل العاملين في المسارح. ويعود ذلك إلى أن رقابة السلطات تتم خلف الكواليس، ودون أن يلاحظها المشاهدون. وهكذا تكون الرقابة الحكومية غير واضحة في مثل هذه الحالات. وتعمل إجراءات الرقابة عموماً على زيادة التكاليف، واستهلاك مزيد من الوقت، وجعل الفنانين في حالة دائمة من القلق والشعور بعدم اليقين.
على الرغم من كل الحجج التي يسوقها الفنانون في الدفاع عن مبادراتهم الخاصة بالحد من الرقابة الرسمية المفروضة على الأعمال الفنية، فإن هناك أسئلة حول إذا ما كانت السلطات سترضى بمجرد وجود الرقابة الذاتية على الأعمال الفنية في ظل أنظمة التصنيف القائمة. وتؤدي مثل هذه الأسئلة في العادة إلى مزيد من الأسئلة، ومنها: هل سوف تثق الدولة في سنغافورة بقدرات المعنيين في عالم الفن بمراقبة محتويات الأعمال الفنية بصورة تنم عن النضج، أم أنها ستفترض أن القضايا ذات الارتباط بتنوع الأعراق والأديان، أعقد وأصعب من أن تترك للتقديرات الذاتية؟
من المهم كذلك التساؤل عما إذا كان بإمكان المرء أن يتصور سنغافورة دون رقابة، وذلك بخصوص إذا ما كان هنالك عدد كاف من المثقفين في وسائل الإعلام للتعامل مع الأعمال الفنية بالموضوعية المطلوبة، وباستخدام الحجج القائمة على المنطق السليم. ويجب ألا نفترض جدلاً أن الفنان يحتل مرتبة معينة في حد ذاته، كما لا ينبغي القول «إن الفن مقدس، ولا يمكن تحديه». وحتى نتجاوب مع تطلعات الفنانين، فإننا في حاجة فعلية إلى مزيد من العودة إلى التاريخ والأصالة والفلسفة والبعد عن إثارة المخاوف من الوحوش الخيالية. ومن سوء الحظ أن الوسيلة الوحيدة لإنجاز ذلك هي أن نواجه بتلك الأمور التي تغضبنا في العادة.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: OPINION ASIA