التضخم بين مسؤولية السياسة النقدية ونفوذ السياسة المالية
يعتبر التضخم في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية ظاهرة نقدية دائماً وفي كل مكان. ويعني هذا أن الارتفاع المستمر في الأسعار على مستوى الاقتصاد (المستوى العام لأسعار الجملة والتجزئة) مرتبط بشكل مباشر وخطّي بازدياد المعروض من النقود بشكل مضطرد بافتراض استقرار معدل دوران النقود. ورغم صحة هذه القاعدة الاقتصادية بشكل كبير، إلا أنه على أرض الواقع تلعب عدة عوامل أخرى أهمية في التأثير على المستوى العام للأسعار منها على سبيل المثال لا الحصر البنية الهيكلية للاقتصاد ودرجة اعتماده على الإنتاج الحقيقي وطاقته الاستيعابية، ودرجة الانفتاح الاقتصادي، وحرية الأسواق وبنيتها المؤسسية، والأسعار العالمية للمواد والسلع المستوردة كالمواد الغذائية والسلع الرئيسة، وتوقعات الأسعار في المستقبل، وأسعار الصرف المعمول بها. ومع ظاهرة الاتحاد النقدي الخليجي تبرز أهمية مدى تأثير سعر الصرف المعمول به ودرجة مصداقيته على التضخم، لذلك نسلط الضوء في هذا المقام على العلاقة بين التضخم والسلطتين المالية والنقدية ونظام سعر الصرف.
من المعروف أن ظاهرة التضخم غير مرغوب فيها لأنها تؤثر سلباً على الكفاءة والفاعلية الاقتصادية (Efficiency) ما يؤثر بدوره سلباً على معدلات النمو الاقتصادي. إلا أنه يجب الوقوف على تكلفة التضخم اقتصادياً واجتماعياً والتعرف عن كثب على طبيعة ومقدار هذه التكلفة. فمن ضمن التكاليف المرتبطة بالتضخم.. التالي:
ـ اختلال الأسعار النسبية للسلع والخدمات ما يؤدي بدوره إلى تخفيض الفاعلية الاقتصادية.
- توظيف العامة مواردهم ووقتهم لكسب مردود مادي (نقدي) تتناقص قيمته الحقيقية عبر الزمن.
- يؤدي التضخم غير المتوقع إلى إعادة توزيع الموارد الاقتصادية واختلال في الأدوار الاقتصادية، كتحويل المقرض إلى مقترض وخاصة عند ثبات معدلات الفائدة.
- يرتبط ارتفاع التضخم غالباً بارتفاع في مستويات عدم التأكد حول مسار الأسعار مستقبلاً (التضخم المتوقع) ما يدعو الناس إلى بذل مزيد من الوقت والموارد لحماية أنفسهم ومكتسباتهم من تغيرات الأسعار المستقبلية.
- قد يتعارض ارتفاع الأسعار باستمرار مع غايات الاستقرار المالي من خلال مثلاً التأثير سلباً على قدرة النظام المالي في توزيع وتخصيص الموارد بشكل فاعل وكفء، ما يلقي بظلاله على تشويه الأطر والقواعد المحاسبية والمالية التي يقوم عليها النظام المالي. وفي الواقع يصعب الحديث عن ديناميكية العلاقة بين التضخم ونظام سعر الصرف وارتباطهما بمسؤولية السلطة النقدية ونفوذ السلطة المالية دون التطرق إلى القنوات التي يعمل من خلالها التضخم، وآليات التضخم الديناميكية، والعوامل والأسس الاقتصادية التي قد تفضي إلى ازدياد مضطرد في مستويات الأسعار. يوجد في الوقت الراهن شبه اتفاق بين الباحثين وصانعي السياسات على أن السياسة القائمة على استهداف معدل معين من التضخم Inflation Targeting هي من أنجع السبل وأحد أهم العناصر للنجاح في تحقيق غايات السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف. فالسياسة النقدية تعمل بشكل أفضل في ظل وجود مقياس اسمي وكمي محددNominal anchor لدى السلطة النقدية تسترشد به عند اتخاذ القرارات النقدية وكذلك توظيفه للحد من التوقعات التضخمية وذلك لضمان عدم خروجها عن الحدود المقبولة. لذلك وجبت الاستفادة من التجارب العملية الناجحة لعديد من الدول في هذا المجال وهي كثيرة.
إن أحد أهم القنوات التي تحدد مسار التضخم خاصة في الدول الصاعدة هو العلاقة بين السلطة النقدية والسلطة المالية في البلد. فيمكن للسلطة المالية التأثير في مسار التضخم من خلال سياسات العجز المالي وسياسات الإنفاق الحكومي خاصة على الأمد الطويل. أما على الأمدين القصير والمتوسط، فيلعب أسلوب عمل السياسة النقدية والتنظيم المؤسسي الذي تعمل من خلاله دوراً مركزياً في آليات تحديد المستوى العام للأسعار. وقد تبدو لنا درجة الترابط بين السياسة المالية والتضخم ضعيفة في الأمد القصير، إلا أن هذا يعتبر أمرا طبيعيا في ظل توافر مصادر تمويل أخرى غير تضخمية. ومع وجود ضبابية في المسؤوليات والأهداف، قد تتأثر السياسة المالية ''المرتبطة بالتحديد بعجز مالي مستمر'' بأسلوب عمل السياسات النقدية ومصداقيتها وأطرها المؤسسية. ومن الأمثلة العملية على هذا هو تعارض أهداف وأسلوب عمل نظام سعر الصرف الثابت ''خاصة المرتبط بمجلس للعملة'' مع السياسات المالية الناجمة عن وجود عجز مالي مستمر أو تلك المرتبطة باستخدام ما يعرف بضريبة التضخم. هذا وقد ساهمت سياسات سعر الصرف المختلفة والسياسات النقدية المرتبطة بها في الحد من الضغوط التضخمية حول العالم في فترة التسعينات. وتقودنا منطقية الطرح إلى التساؤل: لماذا تتخذ السلطات الاقتصادية سياسات وقرارات معروف سلفاً أنها تفضي إلى التضخم؟ ولماذا تستمر ظاهرة التضخم في الظهور من حين لآخر وبشكل قد يبدو مفاجئا أحياناً؟ أرجع الإجابة إلى سببين رئيسين هما: أولاً سلوك السلطة المالية المتمثل في الحاجة إلى تمويل العجز المالي المتراكم من خلال استخدام نفوذها لإصدار مزيد من النقود، وثانياً إلى سلوك السلطة النقدية المتمثل في اختلال توقيت السياسات النقدية المناسبة وعدم استقرارها عبر الزمن Time inconsistency''.
قد تلجأ الدول إلى تمويل العجز المالي من خلال إصدار مزيد من النقود وهو عائد بشكل رئيس إلى عدم رغبة الإدارة العامة أو عدم قدرتها على وضع استراتيجيات واتباع سياسات للتخلص من العجز المالي ما يعني عدم وجود أطر حازمة لضبط النفقات العامة والخروج من عنق الزجاجة. أضف إلى ذلك تقاعس واضعي السياسات الاقتصادية ومنفذيها عن البحث عن مصادر بديلة وذكية للتمويل أو وسائل لتنمية الإيرادات العامة. ويعتبر خيار إصدار مزيد من النقود خياراً سهلاً وميسراً مقارنة بمصادر التمويل الأخرى. وقد يزيد من حدة المشكلة الإفراط في استخدام المركزية والبيروقراطية والهرمية في أسلوب عمل مؤسسات القطاع العام بأسره، خاصة وزارة المالية والبنك المركزي.
يتجلى اختلال توقيت السياسات النقدية وعدم استقرارها عبر الزمن في سلوك السلطة النقدية خاصة عدم قدرتها واختلال مصداقيتها في الالتزام بهدف المحافظة على مستويات متدنية من التضخم وكبح جماح ارتفاع المستوى العام للأسعار. وقد يبدو للبنك المركزي أنه بمقدوره تحفيز مزيد من النمو الاقتصادي في الأجل القصير من خلال اتخاذ سياسات نقدية توسعية ما يدفعه خطأً إلى زيادة المعروض النقدي وبشكل مضطرد خلال فترة قصيرة ما قد يجذبه في نهاية المطاف إلى التخلي عن هدف الحفاظ على مستويات متدنية من التضخم. وقد يبرز هذا السلوك بشكل جلي عندما تكون هناك ضبابية في استقلالية السلطة النقدية عن باقي المنظومة المؤسسية للدولة. وقد يفسر هذا السلوك للسلطة النقدية بعدم النجاعة في الاستجابة بشكل وتوقيت مناسبين عندما تزداد الضغوط التضخمية محلياً بفعل عوامل أخرى خارج السيطرة ''كارتفاع أسعار المواد الأولية عالمياً، أو انخفاض سعر الدولار... إلخ''.
ويعتبر نظام سعر الصرف المعمول به أحد الأعمدة الرئيسة التي تحدد علاقة السلطتين النقدية والمالية ومدى قدرة كل منهما على التأثير في مسار التضخم. ويمكن وصف العلاقة بين التضخم ونظام سعر الصرف بعلاقة ذات اتجاهين: من التضخم إلى سعر الصرف عبر قناة التوازن أو التعادل Parity، ومن سعر الصرف إلى التضخم عبر أثر التمرير Pass-through effect.
بشكل عام، تؤدي زيادة المعروض النقدي ''خاصة من خلال عملية إصدار النقود'' إلى زيادة معدلات التضخم داخل البلد، ما يجعلها أكبر نسبياً من مثيلاتها في البلدان ذات الارتباط التجاري الأكبر ''باقي دول العالم'' ما يضغط باتجاه انخفاض سعر الصرف في حالة نظام سعر الصرف الحر المعوّم أو يؤدي إلى إعادة تقييم لقيمة العملة ''باتجاه خفضها'' في حالة نظام سعر الصرف الثابت أو المرتبط بسلة من العملات. ويدلل هذا على أن هدف خفض معدلات التضخم وهدف المحافظة على قيمة العملة يسيران في الاتجاه نفسه ويعكسان سياسة اقتصادية واحدة قد تتنوع أدواتها ولكن تلتقي غاياتها عند نقطة واحدة خاصة في ظل نظام سعر الصرف الثابت. ويستنتج من هذه العلاقة أن مدى تأثير زيادة المعروض النقدي على سعر الصرف يعتمد بشكل أولي ورئيس على الطلب المحلي على النقود، وأيضاً على الوضع النسبي لأسواق النقد العالمية ''الطلب على النقود وعرض النقود في سائر دول العالم''. ووفقاً لهذا يتحتم بل أصبح لزاماً على السلطة النقدية في البلد وضع آلية واضحة ومبنية على قواعد علمية لتقدير دالة الطلب على النقود محلياً وبشكل مستمر وتوظيفها كمرشد حقيقي لسياساتها النقدية والبعد عن الارتجال والعشوائية ما أمكن لتحقيق المستوى المرغوب فيه من عرض النقود ''وهو هدف وسيط وليس نهائيا متصل بحاجة الاقتصاد الحقيقية'' ما سيساعدها حتماً على الحد من نفوذ السلطة المالية في هذا المجال. من الناحية الأخرى، يؤثر سعر الصرف في مستويات التضخم عبر تأثر أسعار السلع النهائية محلياً وأسعار السلع الأولية والوسيطة المستوردة من الخارج، ما يعني في نهاية المطاف التأثير على توقعات التضخم. وقد أجريت دراسات مستفيضة لمدى تأثير اختلالات أسعار الصرف على الأسعار المحلية من خلال ما يعرف بأثر تمرير أسعار الصرف، وخلصت جل هذه الدراسات إلى أن الدول الأكثر انفتاحاً تجارياً واقتصادياً ''ملزمة أو طواعية'' وخاصة تلك التي تتبنى نظام اقتصاد السوق هي التي تواجه أثراً أكبر لتمرير أسعار الصرف. ونخلص من هذا إلى أنه لا يمكن تحييد مدى تأثر الأسعار المحلية بتقلبات الأسعار العالمية أو تقلبات أسعار الصرف إلا من خلال تغيير جوهري في سياسات أسعار الصرف وهو ما قد ينطوي على نسف عنقودي للعلاقة الوطيدة بين السلطتين النقدية والمالية في البلد. وقد يكون هذا صعب المنال على الأجل القصير لارتباطه الوثيق باختلال موازين القوى.
إن اختيار أي دولة ذات سيادة نظام سعر صرف معين يعتمد على الخواص التي يتصف بها اقتصاد هذا البلد وهي كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها، إلا أن مايهمنا منها هنا هو ما يتعلق بالتضخم وهي: مدى قرب أو ابتعاد معدلات التضخم المحلية عن معدلات التضخم العالمية، ودرجة مصداقية صانعي السياسات الاقتصادية. وتلعب هذه الخصائص دوراً جوهرياً في تحديد درجة مرونة نظام سعر الصرف، حيث يمثل نظام سعر الصرف الثابت Hard-Peg أقل هذه الدرجات بينما تقع أعلى درجة مرونة عند نظام سعر الصرف تام المرونة/الحرية Free-Float. فعلى سبيل المثال، عند انخفاض درجات مصداقية صانعي السياسات فيما يخص مدى الالتزام بهدف محاربة التضخم ''أي عدم الالتزام بهذا الهدف'' يجعل نظام سعر الصرف الثابت أكثر جاذبية. كذلك كلما زادت الهوة بين معدل التضخم المحلي ومعدلات التضخم في اقتصادات أكبر الشركاء التجاريين تزداد الحاجة إلى تعديل ''أو إعادة تقييم'' سعر الصرف بشكل مستمر ومن حين لآخر ما يتطلب نظام سعر صرف ذا مرونة أكبر. ونخلص من ذلك إلى أن اختيار نظام سعر الصرف المناسب يكتسب أهمية عظمى لتأثيره في: (أ) التضخم، (ب) الحسابات الخارجية للدولة كالحساب الجاري لميزان المدفوعات، (ج) الاستقرار المالي، (د) أسلوب عمل أسواق الصرف الأجنبي.
في النهاية فإن ما ذكرناه أعلاه يصب في مفهوم المثلث مستحيل التحقيق The impossible trinity المتمثل في استحالة تحقيق ثلاثة أغراض معاً وهي: غرض تحقيق استقرار في سعر الصرف من خلال تثبيت سعر العملة، وغرض استقلالية السياسة النقدية، وغرض حرية حركة رأس المال دون قيود. فتحقيق هذه الأشياء الثلاثة مع بعضها يعتبر أمراً محالاً، ويجب التخلي عن واحد منها وهو ذو التكلفة الاقتصادية الأقل على المدى الطويل. يذكر أنه لا يوجد نظام سعر صرف معين ''سواء ثابتا أو مرتبطا بسلة عملات أو معوّم وما بينها من خيارات عدة'' يعتبر أفضل وأمثل خيار على الدوام وفي كل الأحوال والأزمان، فالعوامل المحددة لذلك متعددة وتتغير عبر الزمن وتختلف حسب الظروف والبيئات، لذلك فإن دوام الحال من المحال.. وكان الله في عونك يا اتحاد النقد الخليجي!