فن اسمه «أن تعيش اللحظة»
أن تعيش حياتك هي أن تعيش اللحظات التي أنت فيها الآن، أن تعيش الحاضر فقط. أولئك الذين يفشلون في فعل ذلك، هم من تسيطر عليهم هواجسهم الذهنية ومشاعرهم وآثار الماضي وآمال المستقبل، ومن يستطيعون تقليل أثر الهواجس ومزاج النفس في تحديد مسار يومهم هم من يمكنهم التمرد على أنفسهم والقبض على اللحظة واستغلالها بأفضل شكل ممكن بما يحقق لهم النجاح والسعادة وراحة البال.
هذه النتيجة هي ثمرة كثير من الدراسات النفسية الموجودة اليوم، وهي تأتي تطبيقا عمليا لنظريات التأمل الروحي الشرقية القديمة، التي تحاول دائما إعطاء الإنسان السيطرة على نفسه بجميع الطرق (بما في ذلك اليوجا)، كما أن هذه النتيجة معارضة للنظريات الفلسفية التي تقول إن وجود الإنسان يجب أن يرتبط بأفكاره.
علماء النفس يقولون إن زمننا هذا يسهم في إيجاد «تفتت» في حالتنا العقلية والنفسية، مع كثرة تشتت الذهن بالأمور التي تطرأ عليه، ومع كثرة الخيارات التي تمثل ضغطا علينا فيما نفعل ولا نفعل، ومع سيطرة الحياة المادية التي تغرينا بأشياء كثيرة علينا أن نختار منها، ومع طموحنا بتحقيق النجاح والنجومية أحيانا. عندما نكون في العمل، نفكر في الإجازة، وعندما نكون في الإجازة نقلق كيف تتراكم الأعمال على المكتب، وما يحصل في غيابنا، ونقلق على المستقبل بينما آلام الماضي وإخفاقاته تسيطر علينا، وهذا يتركنا في النهاية في حالة من الإرهاق والقلق والحزن العميق الذي لا نعرف سببه.
العالم النفسي إلين لانجر Ellen Langer الأستاذ في جامعة هارفارد كتب كتابا لشرح كيف يحاول الإنسان أن يطور لنفسه فنا خاصا بعيش اللحظة عنوانه Mindfulness، وهو مصطلح اخترعه لتلك الحالة النفسية النشطة من مراقبة الحاضر، والعمل بجدية على الاندماج فيه دون السماح للمؤثرات الأخرى بالتأثير فيه.
هدف ذلك كله هو السيطرة على الهواجس الذهنية ومحاولة الانفصال عنها بحيث يصبح الإنسان مراقبا لها وليس أسيرا لها، وبما يحقق سعادة الإنسان وقدرته على الاستمتاع بوقته هو السر حسبما يراه جون كاباتزين Jon Kabat-Zinn، وهو عالم طب الأحياء الذي أدخل «التأمل» في علم الطب المعاصر. هذا المؤلف أثبت علميا من خلال عدد من الكتب الرائعة كيف يسهم فن عيش الحاضر والسيطرة على الهواجس في حياة صحية أفضل للإنسان بما في ذلك زيادة المناعة، وتقليل آثار الأمراض الخطيرة المزمنة، وعلاج الصداع، وحتى تقليل آثار السرطان والإيدز.
عندما تقرأ الكتب والدراسات حول هذا الموضوع تكتشف أن فن عيش اللحظة هو فن الحياة نفسه، فهناك مئات النصائح الرائعة والجوهرية التي تمنح الإنسان حلولا لكثير من مشكلاتنا اليومية، وهي مشكلات لا نشتكي منها عادة لأننا نظن أنها جزء لا يتجزأ من الحياة بل نشتكي من آثارها فينا، التي تبدأ بالصداع وقلة الحيوية و»القرف» من العمل والآخرين من حولنا وتنتهي بالهرب من البيت والسلوكيات المنحرفة والتدميرية التي يلجأ إليها الإنسان رغم معرفته بأنها شر محض.
في المقالات الثلاث المقبلة سأتعرض لست نصائح جوهرية أساسية حول فن عيش اللحظة، ولمن لا يريد الانتظار، يمكنه استخدام الكلمات الإنجليزية المذكورة في المقال لاستكشاف عالم كامل من خلال «جوجل»، ولمن لا يهمه الأمر على الإطلاق، فكر قليلا كيف يمكن أن يكون عدم الاهتمام هذا جزءا من المشكلة.
ولكل القراء خذ نفسا عميقا قبل أن تقبل على بقية أحداث اليوم.