الحصار الاقتصادي.. غزة أنموذجاً
ما يعانيه الأشقاء في فلسطين عموماً وفي قطاع غزة بالذات أمر لا تستطيع جل شعوب العالم تحمله والصمود في وجهه. الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي يدفع الفلسطينيون اليوم فاتورته الباهظة مثلما دفعوها من قبل، ليس صراعاً معنياً بالجانبين السياسي والعسكري فقط, إنما هو صراع يحمل أوجها كثيرة من أبرزها الصراع الاقتصادي الذي يأتي كواجهة لكل صراع بحكم أن الاقتصاد عامل مهم سواء تعلق الأمر بالبناء أو الهدم.
سفن فك الحصار التي تنطلق من بقاع شتى في اتجاه قطاع غزة تكون عادةً محملة بالمؤن والمواد الضرورية التي شحت في أيدي المحاصرين بسبب ما تفرضه قوات الاحتلال من حصار على أهل القطاع الذين تركوا كل هذه المدة يعانون الأمرين جراء عدم قدرتهم على توفير البديل المناسب الذي يمكنهم من الاستغناء عن تلك السلع التي توقف تدفقها من الخارج.
أمام مثل هذا الحصار الذي يأتي ـ مع الأسف الشديد ـ والعالم احتفل قبل عقد من الزمان بحلول الألفية الثالثة التي تصنف على أنها ألفية الحضارة والحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، والألفية التي كان منتظراً منها أن تشهد ممارسات مختلفة عما يقوم به الإنسان في سابق الزمان من أفعال وأعمال على اعتبار أن الحضارة والثقافة أمور تراكمية يستفاد من سابقها لتحسين لاحقها. أمام هذه الممارسة البشعة، هل يمكن القول إن الحصار الاقتصادي أصبح سلاحاً أمضى وأقوى من كل الأسلحة؟ ولماذا تنجح دول بعينها في فرضه على دول أخرى؟ وهل يجيز القانون الدولي وكل الأعراف التي اتفقت عليها البشرية مثل تلك الأساليب لمعاقبة الإنسان على جرم ارتكبه أو لم يرتكبه في الأساس؟
الشيء المؤكد أن الحصار الاقتصادي الذي تمارسه إسرائيل على الأراضي المحتلة والمستنسخ من الحصارات التي ما زالت الدول الاستعمارية, التي تأتي الولايات المتحدة على رأسها, تمارسه على عالمنا العربي والإسلامي، يعد من أفضل الأسلحة الاستراتيجية لتجويع الشعوب وقتلها, أو على أقل تقدير إذلالها حتى تبقى تابعة للدول الكبرى. مؤتمر لندن الذي عقدته الدول الاستعمارية عام 1905 واستمر حتى عام 1907 كان من بين بنوده محاربة أي اتجاه من هذه الدول (يقصد بها العربية والإسلامية) لامتلاك العلوم والتقنية حتى تبقى متأخرة ومتخلفة وفي تبعية دائمة للحضارة الغربية. وهذا التوجه كان بداية للأسلوب الذي تحاول الدول الاستعمارية الجديدة فرض إرادتها من خلاله على هذا العالم وهزيمته بطرق مختلفة ليس بالضرورة أن تكون عسكرية.
بعد أكثر من 100 عام على هذا المؤتمر نجد أن توصياته ما زالت سارية ولها مفعول السحر في عالمنا العربي والإسلامي الذي سلم بتلك الرؤى متجاهلاً المقولة القديمة ''ويل لأمة تلبس مما لا تصنع وتأكل مما لا تزرع'' ولم يسع لمقابلة تلك المخططات بمثلها أو ما يمكن أن يكون نداً لها.
ما نشاهده اليوم في قطاع غزة من حصار جائر كنا قد شاهدناه قبل سنوات في العراق وسنشاهد مثله في دول أخرى في المستقبل طالما أن عجلة الإنتاج متوقفة في عالمنا الذي اعتمد في استخداماته على كل ما تنتجه مصانع الغرب التي وفرت كل شيء وأغرقت الأسواق بالسلع والبضائع, لكنها على استعداد لسحبها في أي وقت استجابة لمثل تلك الحصارات التي قد لا تكون جائرة إذا ما قيست بمستوى التقاعس العربي والإسلامي عن الأخذ بالأسباب، ما جعل الفرصة سانحة لدول بعينها احتكرت الصناعة والزراعة كي تفرض شروطها بقوة اقتصاداتها قبل قوة آلتها العسكرية حيث يتساوى التأثير التدميري لكلتا الآلتين.
إذا استمر تعاملنا مع هذه المشكلة على هذا المنوال وبهذا الشكل المتدني من الوعي فإننا سنبقى عرضة لمثل تلك الحصارات التي أثبتت نجاعتها وتأثيرها في شعوب المنطقة, التي حتى إن أرادت رفع صوتها ضد ممارسات تلك القوى فإنها تعجز حتى في الاتفاق على شكل من أشكال المقاطعة التي لو طبقت بشكل صحيح لجعلت الغرب يئن تحت وطأتها.
أذكر أن الدعوات لمقاطعة المنتجات الغربية تكررت في أكثر من مناسبة سواءً كانت تلك المنتجات أمريكية أو دنماركية, لكنها لم تفلح في التأثير على الرغم من أننا شعوب استهلاكية تعتمد علينا اقتصادات هذه الدول بشكل أو بآخر. والسبب الأول وراء هذا الفشل هو عدم وجود قناعة بإمكانية التأثير من خلال هذه الآلية، والآخر عدم وجود البديل الجاهز الذي يمكنه سد النقص الذي سيحدثه الاستغناء عن منتجات تلك الدول ولو بنسبة بسيطة.
أرى أن نتائج استراتيجية المقاطعة التي ندعو إليها بين الفينة والأخرى كلما تعرضنا لخطب ما, انعكست بالسلب على عالمنا العربي والإسلامي عندما أعطت الغرب مؤشرات عكسية على ضعف إرادتنا وقلة حيلتنا وعدم جديتنا في التعامل مع مثل تلك الطوارئ، وهي بالتالي انعكست على القرارات السياسية التي تتخذ من قبل بعض الساسة الذين وجدوا في أسلوب المقاطعة توطئة لتهيئة الأجواء لما هو أسوأ مما نحن عليه الآن, والتي يمكن التدليل عليها في الدعوة الفلسطينية الأخيرة الداعية لمقاطعة منتجات المستوطنات فقط وعدم الإشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى منتجات الدولة المغتصبة في تناقض مثير سيكسب إسرائيل أرباحاً تفوق خسائر المستوطنات المزعومة عندما يهدم آخر حاجز كان إلى الآن يفصل بين المنتجات الإسرائيلية ونفسية المواطن المسلم الرافض لمثل تلك المعاملات.
لن تنفعنا الاستغاثة بالقوانين الدولية ولا حتى بالضمير العالمي طالما أن هذا الضمير الذي يستوطن جزء منه فينا قد أغمض عينه عن واقعنا الصعب ولم يلتفت إلى البحث عن حلول يمكنها أن تنقذ البقية الباقية من الكرامات التي تنحر في كل يوم على مذبح منظمات ومؤسسات العالم الحر التي لا تعنيها صرخات ولا آهات إخواننا المحاصرين في كل مكان, طالما أننا أيضاً لم نعد نسمعها ولا حتى نلتفت إليها.