نهاية السيادة المالية في أوروبا
ذات يوم قال رجل الاقتصاد الراحل ميلتون فريدمان إن العملة الموحدة ـ أي الاتحاد النقدي ـ ليس من الممكن أن تستمر من دون تفعيل شكل عميق من أشكال الوحدة الاقتصادية والسياسية. وبهذا كان يعني اقتصاداً مفتوحاً يضمن التدفق الحر للسلع والعمالة ورأس المال، إلى جانب سلطة مالية مركزية منضبطة وبنك مركزي قوي. ويشكل العنصران الأخيران ركيزتين للعملة القوية. وهاتان الركيزتان تعملان جنباً إلى جنب، ولكن العناصر الأخرى لا تقل أهمية.والواقع أن منطقة اليورو، التي تناضل حالياً ضد الخلل في التوازن المالي وخطر الديون السيادية، تتمتع ببنك مركزي قوي ومستقل، ولكنها مجزأة مالياً ولا تتمتع إلا بقدر جزئي من الوحدة السياسية.
كان من المفترض في معاهدة ماستريخت، من الناحية النظرية، أن تفرض الانضباط المالي عن طريق فرض قيود على حجم العجز الحكومي ومستويات الدين ـ وهي بنية مصممة بوضوح لمنع ''الركوب المجاني'' من جانب الدول المتسيبة مالياً على الانضباط المالي لدول أخرى. وعلى هذا فإن الهدف من معاهدة ماستريخت كان منع نشوء موقف أشبه بالموقف الحالي في اليونان.
ولكنها لم تنجح في أداء هذه المهمة، فقد تبين أن الديون السيادية في منطقة اليورو غير متجانسة من حيث حجم المجازفات والمخاطر. في عالم مستقر، كان إطار معاهدة ماستريخت القائم على قواعد ثابتة ليؤدي الغرض منه إذا تم تنفيذه. غير أن ذلك الإطار يشكل نظاماً هشاً في عالم معرض للصدمات، وذلك لأنه يحتاط لكل شيء باستثناء السياسات المتواضعة المعاكسة للدورة الاقتصادية. ولا عجب إذن أن تُخرَق القيود الصارمة التي فرضتها المعاهدة في وقت مبكر من العقد الأول من عمر اليورو من جانب بلدان تقع في مركز الاتحاد الأوروبي وبلدان أخرى تقع على محيطه الخارجي.
في ظل الصدمات الكبرى، تحدث أغلب حالات الخرق تلقائياً في واقع الأمر، مع تقلص العائدات الضريبية وتوسع نطاق مدفوعات الضمان الاجتماعي. ويشير تحليل حديث أجراه صندوق النقد الدولي إلى أن ما يقرب من 80 في المائة من الحوافز المالية في البلدان المتقدمة أثناء الأزمة الحالية لم تكن اختيارية. وهذا النوع من معادلة التقلبات الدورية ليس بالأمر السيئ، ولكن إذا أدى إلى نشأة التهديد بزعزعة الاستقرار المالي وتعاظم خطر الديون السيادية المفرطة في أعقاب صدمة كبرى، فهذا يعني أن نقطة البداية لم تكن محافظة بالقدر الكافي ـ أو بعبارة أخرى، كان العجز أو مستويات الديون (أو كلاهما) أعلى مما ينبغي. ومعادلة التقلبات الدورية لا تعني العجز المعتدل في أوقات الرواج والعجز الضخم في أوقات الركود.وإذا كانت القواعد التي تحكم الميزانية في الاتحاد الأوروبي حالياً جامدة إلى الحد الذي يستوجب تجاهلها في مواجهة الصدمات، فهذا يعني أن الباب مفتوح للسلوكيات المالية المتهورة. ومن الناحية النظرية فإن الرصد الدقيق العميق قادر على التمييز بين الاستجابات الحكيمة الحقيقية المعادلة للتقلبات الدورية والتبذير، ولكنه في الممارسة العملية صعب التطبيق.
يتلخص التحدي المباشر الذي تواجهه منطقة اليورو الآن في انحدار الاستقرار المالي في مجموعة فرعية من البلدان التي هبط تصنيفها الائتماني وارتفعت تكاليف خدمة ديونها. وفي ظل غياب المساعدات الخارجية وعدم توافر خطة محكمة لاستعادة الانضباط المالي، فقد لا تتمكن اليونان من ترحيل ديونها السيادية، الأمر الذي لابد أن يدفعها إلى التخلف عن سداد ديونها، ربما في هيئة إعادة هيكلة الديون اليونانية. وحتى مع توافر المساعدات الخارجية فإن عديدا من المراقبين يعتبرون التخلف عن السداد أمراً في حكم المؤكد، وذلك لأن حسابات استعادة التوازن المالي شاقة للغاية. إن عضوية منطقة اليورو تستبعد التضخم وخفض قيمة العملة بوصفهما آلية محتملة للتعديل. ويتلخص أحد البدائل في الانكماش المحلي مقروناً بتشديد القيود المالية على نحو مفرط ـ وهذا يعني فترة من النمو البطيء أو السلبي في الأجور والدخول وبعض أسعار السلع غير المتداولة. بيد أن الانكماش أمر مؤلم ولا يمكن تحقيقه عملياً لأسباب سياسية. إن القيود المفروضة على بلدان منطقة اليورو أشبه بالقيود المفروضة على أي ولاية أمريكية تتعرض لمتاعب مالية. فخفض قيمة العملة ليس بالخيار الوارد بسبب العملة الموحدة. ولن يلجأ بنك الاحتياطي الفيدرالي عن طيب خاطر إلى التضخم. وفي الولايات المتحدة فضلاً عن ذلك قواعد ومعاهدات (على غرار معاهدة ماستريخت) تمنع الولايات أو لا تشجعها على تكوين العجز الطويل الأجل. وهذا يعني أن سلوك الولايات، فيما يتصل بالنواحي المالية يميل إلى مسايرة اتجاه التقلبات الدورية في مواجهة الصدمات الكبرى مثل الصدمة الأخيرة.
لماذا إذن لا يتسم النظام الفيدرالي بالقدر نفسه من الهشاشة؟ الواقع أن الأمر يشتمل على صمامي أمان رئيسيين. الأول، قدرة الحكومة المركزية على تكوين العجز والتصرف بشكل حاسم. والثاني، التنقل الحر للأيدي العاملة.
ولا يملك الاتحاد الأوروبي بنية مالية مركزية قوية تخوله سلطة وضع سياسات معاكسة للتقلبات الدورية. أما حرية تنقل الأيدي العاملة، التي تشكل هدفاً بعيد الأمد في الاتحاد الأوروبي، فتقيدها حواجز اللغة، والقوانين، والأنظمة الإشرافية المختلفة.
فضلاً عن ذلك فإن سندات الولايات لا تعامل على قدم المساواة، ولا تتوانى الأسواق عن معاقبة الولايات المبذرة. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يريد اتحاداً نقدياً، حيث الديون السيادية متجانسة نسبياً مع حجم المخاطر، فلابد وأن يكون الانضباط المالي متجانساً على نحو مماثل. بيد أن هذا يعني أيضاً أن الاتحاد الأوروبي لابد وأن يستعين بآلية قوية في الاستجابة للصدمات على نحو معاكس للتقلبات الدورية.
ولقد أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي أخيرا عن اعتزامهم إعادة النظر في بنية معاهدة ماستريخت، وهي فكرة طيبة من حيث المبدأ. وقد يسلكون مسار تبني القواعد التي أرستها معاهدة ماستريخت فيما يتصل بالسماح بمزيد من المرونة الزمنية على المستويات الوطنية. ولكن هذا التوجه سيكون معقداً. وسيتطلب الأمر قدرات متطورة لرصد وتنفيذ السياسة المالية والديون السيادية ـ وإلا فسوف ينتهي بنا الحال إلى تكرار الموقف الراهن.
هناك حل أفضل في الأمد البعيد، يتلخص في تمتع الاتحاد الأوروبي بصلاحيات مالية مركزية تعمل على تجميع الموارد اللازمة للاستجابة للصدمات أثناء فترات النمو. ونستطيع أن ننظر إلى هذا باعتباره ضريبة استقرار تصبح سلبية أثناء دورات الانحدار. ولكن التحرك في هذا الاتجاه ينطوي على درجة من المركزية المالية. بل وربما يتطلب الأمر قدرة الاتحاد الأوروبي على إصدار الديون السيادية. ومن غير الواضح ما إذا كانت الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ كل هذا متوافرة. ولكن هناك خطوة نستطيع أن نتخذها في الاتجاه الصحيح من خلال فرض المركزية المالية الجزئية إلى جانب تفويض محدود بمواجهة التقلبات الدورية. وهذا من شأنه أن يسمح بالفرض الفعّال للانضباط المالي على المستويات المالية وتزويد اليورو بالانضباط المالي الذي يحتاج إليه من أجل البقاء. في إبان تأسيس منطقة اليورو، كان من المفهوم على نطاق واسع أن الانضباط المالي يشكل ركيزة بالغة الأهمية. والواقع أن الأزمة الحالية سلطت الضوء على هذه النقطة. والتحدي الآن يتمثل في تحقيق مزيد من الانضباط والمرونة لحماية المصالح الجماعية. وهذا ينطوي على فقدان السيادة المالية، ولكن مواجهة هذه الحقيقة أمر ضروري إن كنا راغبين في حماية الاتحاد النقدي.