أبحثُ عن زعيم أوروبي مبتسم!

''كسياسيين.. علينا أن نتعاطى مع حقيقة، أن غالبية الناس لا يشعرون بالانتماء إلى الاتحاد الأوروبي''
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل

تحديت أحد الزملاء من رؤساء التحرير في أن يجلب لي – بمعاونة محرريه – صورة واحدة لزعيم أوروبي مبتسم، على ألا يزيد تاريخها على أربعة أسابيع فقط. قَبِل التحدي، لكنه عاد في مساء اليوم نفسه، ليكتب إليَ: ''لقد فشلنا يا عزيزي''. وأضاف يقول:'' لقد حاولنا العثور على صورة حتى لسيلفيو برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي قليل المشاعر، لكن يبدو أنه طرأ بعض التغيير الإيجابي على مشاعره، فلم يبتسم''! الواقع أن الخوف من ''إنفلونزا'' اليونانية الاقتصادية، إلى جانب عبء الإنقاذ الأوروبي لليونان، نشرا ما يمكن تسميته ''مهرجان العبوس الأوروبي''. هذا ''المهرجان'' ليس موسميا .. إنه تاريخي. إنه من ذلك الذي ينتشر، مع مشاعر الندم، من غبطة وُلدَت قبل استكمالها زمن التكوين الطبيعي. إنه ''مهرجان'' يشارك فيه الجميع قسراً، لا احتفالاً. إنه ليس كمهرجان ''ريو دي جانيرو'' المبهج، هو ''مهرجان يورو الخوف''!
الأوروبيون مرعوبون من ''وباء'' اليونان الاقتصادي. هذه حقيقة، لا تنفع معها التطمينات التي تصدر بين الحين والآخر. ولكن هل الاتحاد الأوروبي بشكل عام، ومنطقة اليورو بشكل خاص، منطقتان محصنتان من الأوبئة الاقتصادية؟ هل هاتان المنطقتان، معقمتان اقتصادياً؟ هل أن ''الوباء'' اليوناني المتوقع، سيكون العامل الوحيد للمصاعب والمشكلات والهموم الاقتصادية في أوروبا بشكل عام؟ باختصار، هل أن كل شيء في هذه القارة على ما يرام؟ الجواب ببساطة هو: لا، ولا.. قوية جداً. فما تحصده اليونان حالياً، ستحصده البرتغال وإسبانيا لاحقاً، إذا ما تُرك المجال للمشاعر الوطنية تتقدم على الواجبات الأوروبية. فقد بلغ الاتحاد الأوروبي ـ بشكل عام ـ مرحلة تحول فيها الانتماء الوطني، إلى شيء يشبه إلى حد ما ''الانتماء الفاشي''، ولا بأس من شيء ـ ولو قليل - من ''الانتماء النازي''! وهذه المقاربة بالتحديد هي التي دفعت مجلة يونانية لوضع صورة على غلافها للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في بذلة عسكرية قتالية تقف أمام مبنى ''الأكروبول'' الشهير في اليونان، ومروحيات عسكرية تحلق أعلاها. وهو ما دفع أيضاً إحدى الصحف اليونانية لنشر مانشيت مُعبِر جاء فيه: ميركل تقول ''سندفع لكم، لكن عليكم أن تنزفوا''! ومضى نائب رئيس وزراء اليونان تيودورس بانجالوس، أبعد من ذلك، حين قال علانية: ''إن موقف ألمانيا من بلاده يقوم على أساس (عنصري)، ومع حُكم مسبق بأن اليونان لن تفي بتعهداتها''. انظروا ماذا قال أيضاً: ''إن ألمانيا لم تقدم التعويض المناسب لليونان عما سببته لها من أضرار أثناء الحرب العالمية الثانية''! يا إلهي، بدأت أوروبا تنبش في الماضي الأليم لها وللعالم. إنها تستحضر بطريقة مباشرة مَن؟ الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، ولا بأس من استحضار تابعه الزعيم الإيطالي الفاشي ببينيتو موسوليني، إذا ما كان يفي بالغرض!
المشكلة التي تواجهها أوروبا اليوم، لا تكمن فقط في مشكلة اليونان وعملية إنقاذ هذا البلد من الإفلاس والانهيار، بل تكمن أيضاً في غياب مؤشر ''انتماء أوروبي'' واضح المعالم، واعتماده مرة واحدة وإلى الأبد. هل يريد الأوروبيون اتحاداً، يشبه ''اتحاد'' الولايات الأمريكية، في مرحلة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن وما بعدها؟ أم أنهم يرغبون في اتحاد يسرح بين قوميات مضطربة، و''مواطنة أوروبية'' مهزوزة؟ هل سيتركون المجال أمام ما اصطلحتُ على تسميته في كتابي ''في الأزمة'' (نشرته العام الماضي) بـ ''القومية الاقتصادية''، التي خرجت من بطن الأزمة الاقتصادية العالمية، كي تكون بمثابة الجراد الذي يُغِير على الحقول ويلتهم المحصول؟ أم أنهم سيقاومونه بمستحضر ''المواطنة الأوروبية''؟! إن الحالة الأوروبية الراهنة، تحتم إنقاذ أي غريق أوروبي، وبمعزل عن ذلك سيسحب إلى القاع، كل ما يرتبط به مباشرة، بل سيهدد حتى ذاك الذي لا يرتبط ارتباطاً مباشراً به. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على أداء السوق الأمريكية التي انخفضت انخفاضاً تاريخياً، وأسواق آسيا التي تعيش تحت ضغط المخاوف من انتقال عدوى الأزمة اليونانية إلى دول أخرى في منطقة اليورو.
نقول العدوى اليونانية؟ نعم, فالمدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس يرى ـ على سبيل المثال ـ أن خطة الإنقاذ الأوروبية – الدولية لليونان (الأوروبيون سيدفعون 80 مليار يورو، وصندوق النقد سيدفع 30 مليارا) وُضعت أصلاً، لتفادي انتقال العدوى إلى بقية الدول الأوروبية، ولا سيما تلك المؤهلة للإصابة في أي وقت. فهو يعتقد ـ ومعه العالم أجمع ـ أن خطر العدوى موجود دائماً، وينبغي أن يتحلى كل طرف بيقظة كبيرة. ولذلك تحولت دولة مثل ألمانيا، من معارض شرس لتقديم المساعدات والعون إلى اليونان، إلى مؤيد لتقديمها، مع شراسة في تطبيقها، وموجات من الإهانات المتواصلة. المندفعون نحو الإنقاذ، لا تهمهم الإهانات الألمانية لليونان، ولا المظاهرات التي عمت الأرجاء اليونانية (بما في ذلك القتلى الثلاثة الذين راحوا ضحية المظاهرات). المهم بالنسبة إليهم، ألا تتسبب بلاد الإغريق في انهيار ''إمبراطورية'' منطقة اليورو، وتزعزع مكانة الاتحاد الأوروبي.
الفاتورة المالية عالية بلا شك، لكن الفاتورة المعنوية ستكون أعلى بالتأكيد، والفاتورة المرتبطة بالسمعة والتاريخ، ستكون باهظة بصورة غير محتملة، لأي عضو في منطقة اليورو، إذا ما تُركت اليونان لمصيرها. ومن أجل ذلك أشرك الأوروبيون الكبار، حتى صغارهم في عملية الإنقاذ، بل حتى أولئك المهددين بالمصير اليوناني، مثل إسبانيا ( دفعت 9.79 مليار يورو) والبرتغال ( دفعت 2.06 مليار). ألمانيا سددت المبلغ الأكبر ( 22.4 مليار)، ودفعت معها مالطا، مبلغاً كبيراً جداً بالنسبة لها، حتى إن كان مجرد 70 مليون يورو على مدى ثلاث سنوات! إنها عملية إنقاذ لليونان، وحصانة ضرورية للبيت الأوروبي الكبير، حتى إن تمت بوجوه عابسة، خائفة، مرتعدة، غاضبة.
لقد أثبتت الحالة اليونانية أن للاتحاد ـ أي اتحاد ـ تكاليف في الأزمنة العادية السلسة. وله تكاليف هائلة في أوقات المحن والأزمات. وأعطت الأوروبيين درساً، ما كانوا ليفهموه، لولا الأزمة الاقتصادية العالمية، التي جعلت من اليونان دولة على حافة الانهيار الشامل، وتهدد ـ حتى الآن ـ دولاً، كان يصعب قهرها. هذا الدرس ينحصر في ضرورة التروي في توسيع نطاق منطقة اليورو، وأهمية أن تكون الواقعية، هي المحرك الأساسي لمخططات التوسيع. ولذلك أرى صعوبة (إن لم أقل استحالة)، في مواصلة توسيع هذه المنطقة، في المستقبل المنظور، لأن الأزمة والمشكلة اليونانية غيرتا شروط العضوية، أو على الأقل جعلتاها أكثر صعوبة. وعلى هذا الأساس، تطالب ألمانيا بتغيير ''ميثاق الاستقرار'' بين دول منطقة اليورو، كدرس من الأزمة اليونانية. فهي تعرف، ومعها أولئك الذين لا يزال لديهم مساحة للتفكير، أن انسحاب اليونان (حسب بعض الاقتراحات التي طُرحت)، أو أي دولة أوروبية من منطقة اليورو، لن يؤدي إلا إلى شيء واحد فقط، هو نهاية اليورو نفسه! وهي نتيجة لا يمكن لأحد أن يتحملها، سواء أكان عابساً، أم ضاحكاً!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي