تسعير النفط ومصالح الكبار
يناسب كبار الدول النفطية التي تعتمد على النفط لتسيير أمورها سعر معتدل للنفط يضمن دخلا مستقرا على المدى القصير، ومستمر على المدى الطويل. من أهم نتائج هذا السعر المعتدل أنه يضمن عائداً مجزياً على الاستثمار في الصناعة، في الوقت الذي يخفض فيه ذبذبة الأسعار والارتفاعات والانخفاضات الشديدة. أما الدول المستهلكة فإن ما يهمها هو ضمان الإمدادات بأسعار مستقرة، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان السعر معتدلا بحيث يضمن استمرار الاستثمار في الصناعة لتأمين الإمدادات المستقبلية، ويخفف من تذبذب الأسعار بحيث يمكن للمستثمرين في القطاعات المختلفة الاستثمار دون الخوف من التقلبات الكبيرة في أسعار النفط، التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى وقف أو تأخير هذه المشاريع. هذه النقطة هي جوهر المصالح المشتركة بين الدول المنتجة والمستهلكة.
مصالح كبريات الدول النفطية
ما السعر الأمثل للنفط من وجهة نظر هذه الدول؟ (علما بأن السعر الأمثل هو مفهوم نظري لنطاق سعري يتغير باستمرار). يتفق الخبراء، بشكل أو بآخر، على أن هناك سعراً أمثل للنفط الخليجي يضمن ما يلي:
1- عائد مجز لثروة وطنية ناضبة.
2- إيرادات مالية مستقرة.
3- استمرار الطلب المستقبلي على النفط.
4- الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول المنتجة والمستهلكة.
5- وجود النفط كأحد مصادر الطاقة اللازمة لمقابلة الطلب المتزايد على الطاقة في المستقبل.
إذا تأملنا في هذه الأمور الخمسة نستنتج بسهولة أن أسعار النفط المنخفضة لا يمكن أن تضمن أيا منها. فالأسعار المنخفضة ضياع للثروة الوطنية، ولا تحقق استقراراً في الإيرادات, حيث إن الإيرادات ستنخفض مع انخفاض الأسعار، وسينخفض الاستثمار في الصناعة، ويزيد الطلب على النفط، وبالتالي ترتفع الأسعار بشكل كبير، تماما كما حصل عام 2000 بعد الانخفاض الكبير عامي 1998 و1999. وسيؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع مفاجئ وكبير في الإيرادات لن يمكّن الحكومات من إنفاقها بالشكل المطلوب، ولا بشكل مباشر وآني خوفا من التضخم. ورغم أن انخفاض أسعار النفط صوحب دائما بزيادة في الطلب على النفط، إلا أن هذا تطور آني لأن ارتفاع الأسعار فيما بعد وما يترتب على ذلك من تغيرات سيخفض الطلب على النفط، وهذا ما حدث في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ومنذ نهاية عام 2007. وهنا لا بد من التنويه بأن الطلب على النفط بدأ بالانخفاض قبل الأزمة المالية والكساد الذي تلاها بنحو عام تقريباً، خاصة في الولايات المتحدة. هذا يؤكد أن المستهلك الأمريكي بدأ يغير سلوكه نتيجة ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة. وإذا عدنا إلى فترات انخفاض أسعار النفط مثل فترة منتصف الثمانينيات وفي عامي 1998 و1999 نجد أن القلاقل السياسية وأعمال العنف اشتدت في عدد من الدول النفطية، وتغيرت بعض الحكومات ديمقراطيا كما حصل في فنزويلا. كما أن هجرة «الشباب» للبلاد الصناعية زادت في تلك الفترات، خاصة من المكسيك للولايات المتحدة ومن نيجيريا إلى أوروبا. وهذا يؤكد الأمر الرابع وهو أن السعر الأمثل يجب أن يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي. ولو نظرنا إلى الأمر الخامس نجد أن أسعار النفط المنخفضة تؤدي إلى زيادة حصة النفط على حساب بعض مصادر الطاقة الأخرى من جهة، كما أنها تؤدي إلى وأد مصادر الطاقة الجديدة والتكنولوجيا المتعلقة بها من جهة أخرى. المقصود هنا أن السعر الأمثل يشجع التكنولوجيا الجديدة بحيث تقوم مصادر الطاقة الجديدة بتغطية حصة في الطلب على الطاقة لا يمكن للنفط أن يغطيها بسبب الطلب الكبير على الطاقة.
وإذا نظرنا إلى الأسعار المرتفعة نجد أنها لا تضمن هذه الأمور الخمسة أيضاً. فهي لا تضمن استمرار الطلب على النفط، وبالتالي لا تضمن عائدا مجزيا لثروة ناضبة على المدى الطويل، ولا تحقق استقرار عائدات النفط، وتؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية في الدول المستهلكة، الأمر الذي سيزيد من العداء للنفط والدول النفطية وسيؤدي إلى سوء العلاقات بين الدول المنتجة والمستهلكة. وسيؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى انخفاض الطلب على النفط نتيجة ترشيد الاستهلاك، والتحول عن النفط إلى بدائل أخرى، وتحسن الكفاءة في الاستخدام، وبالتالي انخفاض حصة النفط في إجمالي الطاقة المستهلكة، وهذا ربما يعرض أمن الطاقة العالمي للخطر.
نعم، من الصعب استبدال النفط بمصادر طاقة أخرى حتى على المدى الطويل، لكن هذه النتيجة مبنية على حقيقة, وهي أن الأسعار المنخفضة تداوي الأسعار المنخفضة، والأسعار المرتفعة تداوي الأسعار المرتفعة. أما إذا تدخلت حكومات «أوبك» وأصرت على تخفيض الإنتاج بشكل كبير ورفعت الأسعار إلى ما كانت عليه في النصف الأول من عام 2008، فإن النتيجة المذكورة أعلاه لن تكون صحيحة. بعبارة أخرى، إن من ينادي بتخفيض الإنتاج بشكل كبير ورفع الأسعار إلى مئات الدولارات بحجة أنه لا يمكن استبدال النفط بأي مصدر آخر يجهل أو يتجاهل شروط صحة هذه المقولة.
إضافة إلى ذلك فإن علينا أن نتذكر أن الفترة التي ارتفعت فيها أسعار النفط ولم تتأثر فيها اقتصادات الدول الصناعية كانت هي الفترة الوحيدة في التاريخ التي ارتفعت فيها أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي والإنفاق العسكري والدخول والاستهلاك، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الدولار ومعدلات الفائدة. هذا يعني أن ارتفاع أسعار النفط في وقت يرتفع فيه الدولار ومعدلات الفائدة وينخفض فيه الإنفاق الحكومي لتخفيض العجز في الموازنات سيكرر الأزمة التي حصلت في السبعينيات عندما ارتفعت أسعار النفط وارتفعت معدلات التضخم والبطالة في الدول المستهلكة، وبعد فترة سيكرر ما حصل في منتصف الثمانينيات في الدول المنتجة عندما انخفضت الأسعار والإيرادات وأصبحت معدلات النمو الاقتصادي سالبة وانهارت عدة قطاعات اقتصادية في هذه الدول. وهنا لا بد من التذكير بحقيقة تاريخية أن الوقت الوحيد الذي توقفت فيها أغلبية العواصم الأوروبية عن الحركة في الوقت نفسه خلال العقود الأخيرة كان عام 2000 عندما ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، في الوقت الذي انخفض فيه اليورو إلى أدنى مستوياته مقابل الدولار. خلاصة القول، كل الثوابت في أسواق النفط ثابتة ما دامت تتكرر في البيئة ذاتها، لكنها ليست من «الثوابت» إذا نشأت في بيئة مختلفة.