يا «أمن» .. ما فيك «أمن»

«أمن الطاقة» الذي يتشدق به سياسيو بعض الدول المستهلكة ليس فيه من الأمن شيء سوى أمن «الكرسي» لهؤلاء الذي سيترشحون للانتخابات في هذه الدول، لكن الحقيقة أن سياسات «أمن الطاقة» هي مصدر «انعدام الأمن» ليس على مستوى الطاقة فقط، إنما حتى على المستويات السياسية والاجتماعية.
سياسات أمن الطاقة في الدول المستهلكة لا تعرّض أمن الطاقة في هذه البلاد للخطر فقط، إنما تعرض أمن الطاقة العالمي، بما في ذلك أمن الطاقة في الدول المنتجة، للخطر. وهذه بعض الأمثلة:
1 ـ هدف الجانب الاقتصادي لأمن الطاقة في الدول المستهلكة هو منع الندرة أو العجز في مصادر الطاقة من وقف عجلة النمو الاقتصادي، ورفع معدلات التضخم، وزيادة البطالة، وإضعاف الميزان التجاري. المشكلة في هذه الحالة أن تخفيض الاعتماد على واردات النفط، مثلا، لن يجنب البلد المشكلات المذكورة أعلاه, لأن تخفيض الواردات سيؤثر سلباً في الجانب الاقتصادي لأمن الطاقة في الدول المنتجة، الأمر الذي سيؤدي إلى أزمة طاقة تؤثر سلباً في الاقتصاد العالمي ككل. فأحد أهداف الجانب الاقتصادي لأمن الطاقة في الدول المنتجة يتطلب استمرار عائدات النفط فوق مستوى معين لضمان النمو الاقتصادي وتفادي ارتفاع معدلات البطالة، لكن هذا يتطلب استمرار الطلب على النفط في الأسواق العالمية. إن تبني سياسات غير منطقية، وأحيانا مدمرة، لوقف الاعتماد على النفط سيؤدي إلى ضعف معدلات النمو الاقتصادي في الدول المنتجة، وربما يؤدي إلى مشكلات سياسية واجتماعية فيها توقف إمدادات النفط في المستقبل، كما أنه يقنع الدول المنتجة بعد الاستثمار في الصناعة، الأمر الذي يخفض إمدادات النفط في المستقبل بشكل أكبر من الانخفاض في الطلب. النتيجة ستكون كارثة اقتصادية عالمية: ارتفاع ضخم في كل أسعار الطاقة، وتدهور معدلات نمو الاقتصاد العالمية، وارتفاع التضخم والبطالة. لنتذكر الآن هدف «أمن الطاقة»: ضمان معدلات عالية من النمو الاقتصادي، وتخفيض التضخم، وتخفيض البطالة. لكن النتيجة هي العكس تماماً: يا «أمن».. ما فيك «أمن»!
2 ـ هدف الجانب البيئي لأمن الطاقة هو تخفيض أو إلغاء التلوث الناتج عن عمليات استكشاف إنتاج ونقل وتكرير وتصنيع مصادر الطاقة. وبما أن موضوع البيئة لا يعرف الحدود السياسية، فإن سن سياسات محلية لـ «استقلال» الطاقة تحت مظلة «أمن الطاقة» لن يسهم في تحسين البيئة، بل على العكس، ربما يؤدي إلى مزيد من التلوث حيث تنتقل المصانع إلى الدول المجاورة لتلافي القوانين البيئية الجديدة في البلد الأم. إن تخفيض التلوث في أي بقعة من العالم يتطلب جهوداً محلية في ظل تعاون عالمي، وليس من المنطقي أن تتعاون دول العالم في مجال البيئة، في الوقت الذي تدعو فيه كثير من الدول إلى «استقلال الطاقة». فإذا قامت دولة ما بتبني سياسات لتخفيض الاعتماد على النفط لأسباب بيئية، ولم تقم جارتها بتبني السياسات نفسها، فإن أهالي البلد الأول سيدفعون ثمنا أعلى للطاقة، في الوقت الذي ما زالوا يعانون فيه التلوث القادم من الدولة المجاورة. إضافة إلى ذلك، إذا قامت دولة ما بتبني سياسات لتخفيض واردات النفط بحجة تخفيض التلوث، فإن هذه السياسة ربما تؤدي إلى عكس ذلك وزيادة التلوث، خاصة إذا تم فرض ضرائب عالية جدا على النفط للتخفيف من استعماله لأن الفقراء سيلجأون إلى وقود أرخص، مثل الحطب والفحم وروث الحيوانات للتدفئة والطبخ، وهي مصادر تشتهر بأنها أكثر تلويثا من النفط بكثير. يا «أمن».. ما فيك «أمن»!
3 ـ هدف الجانب الاجتماعي لأمن الطاقة هو تأمين الطاقة للفقراء وتخفيض «فجوة الطاقة» بين الأغنياء والفقراء. وكلما انخفضت فجوة الطاقة بين الأغنياء والفقراء، تحسن «أمن الطاقة» في البلد، والعكس بالعكس. وتشير بيانات دول مختلفة إلى أن هناك علاقة طردية بين حجم الفجوة والقلاقل السياسية والاجتماعية، الأمر الذي يجبر الحكومات على تبني سياسات مختلفة لتصغير هذه الفجوة مثل تحديد الأسعار والإعانات الحكومية. لكن نتائج هذا التدخل الحكومي هي عكس الهدف تماما, حيث إن هذه السياسات تزيد الهوة بين الفقراء والأغنياء لأن المستفيد الأكبر من تحديد أسعار الطاقة بأقل من سعر السوق ومن الإعانات هم الأغنياء. لماذا؟ لأن استهلاك الأغنياء للطاقة يبلغ أضعاف ما يستهلكه الفقراء, إضافة إلى ذلك فإنه سينتج عن هذه السياسات سوق سوداء لا يستفيد منها إلا المجرمون من جهة، والمستهلكون القادرون على الدفع من جهة أخرى. المشكلة الأكبر أن تبني الدول المستهلكة سياسات غير منطقية ومكلفة للتخلص من النفط سيؤدي إلى تخفيض إيرادات الدول المنتجة، وبالتالي عدم قدرة الدول المنتجة على تصغير الهوة بين الفقراء والأغنياء، الأمر الذي سيؤدي إلى مشكلات اجتماعية وسياسية في الدول المنتجة وانخفاض صادراتها النفطية. هذا يعني أن أسعار الطاقة سترتفع، وستؤدي إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء في الدول المستهلكة. أضف إلى ذلك أن مشكلات كهذه في المكسيك ستؤدي إلى هجرة ملايين المكسيكيين إلى الولايات المتحدة، وهجرة ملايين النيجيريين إلى أوروبا، الأمر الذي سينتج عنه مشكلات اجتماعية ضخمة. النتيجة: عدم الاستقرار الاجتماعي في الدول المنتجة سيؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي في الدول المستهلكة. يا «أمن».. ما فيك «أمن».
4 ـ وإذا ما نظرنا إلى جانب «العلاقات الخارجية» لأمن الطاقة نجد أنه يتطلب التعاون بين الدول المنتجة للطاقة والدول المستوردة لها، كما نجد أن التهديد الأكبر لهذا الجانب من أمن الطاقة هو سياسات «أمن الطاقة» التي تقوم على تخفيض واردات النفط. إن هدف جانب «العلاقات الخارجية» لأمن الطاقة هو منع الاعتماد على واردات الطاقة من التأثير في السياسات الخارجية للدولة أو تحديد خياراتها في التعامل مع قضية ما على الصعيد العالمي. المشكلة أن هذا الأمر لا يقتصر على الدول المستهلكة، وإنما يمتد إلى الدول المنتجة أيضا: اعتماد الدولة المنتجة على تصدير جزء كبير من نفطها لعدد محدود من الدول المستهلكة قد يجبرها أيضا على تغيير سياساتها الخارجية. ويصبح الأمر معضلة إذا عرفنا أنه، بشكل عام، اعتماد الدول المنتجة على تصدير النفط أكبر من اعتماد الدول المستهلكة على استيراد النفط. هذا يعني أن الضغط على الدول المنتجة لتغيير سياساتها الخارجية قد يكون أكبر من ضغط الدول المنتجة على المستهلكة لتغيير سياساتها الخارجية. بغض النظر عن هذه المشكلات، فإن الحقيقة أن أي دولة، تعاني الضغط الناتج عن اعتمادها على واردات أو صادرات النفط ستقوم بتخفيض هذا الاعتماد، وبالتالي إلغاء هذا الضغط في المستقبل. النتيجة هي أزمة طاقة في المستقبل بسبب قيام الدول المستهلكة بتخفيض الطلب على النفط، أو قيام الدول المنتجة بتخفيض اعتمادها على صادرات النفط وإيجاد بديل للدخل. يا «أمن».. ما فيك «أمن»!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي