«صافولا».. ثقافة الحوكمة في عاصفة الأزمة
هل يمكن للحوكمة أن تكون مفيدة في أزمة مالية؟ قليلة هي تلك التجارب التي يمكننا من خلالها أن نقدم دليلا مقبولا لنجيب عن هذا السؤال بنعم, ليس لقلة تلك التجارب فحسب, لكن لقلة أولئك الرؤساء التنفيذيين الذين يتملكون القدرة على مشاركة الآخرين فكرهم وتجاربهم, ولعلي أقول قلة أولئك الذين يمتلكون الشجاعة لطرح تلك الأفكار ومناقشتها بعلانية وتقبل الرأي الآخر فيها. ورغم أن عددا من أركان قواعد الحوكمة قديمة قدم الشركات نفسها إلا أن مفهوم الحوكمة ونظامها يعد حديثا ولم يمر بأزمات مالية تختبر قدرته على إضافة القيمة وتقديم حلول تساعد القيادات الإدارية في الشركات على اتخاذ القرار السليم في وقته المناسب. والحقيقة أنني لا أعرف ما إذا كانت الأزمة المالية التي مرت بالعالم قد جلبت معها دليلا على قدرة قواعد الحوكمة على حل المشكلات في حينها. وإذا كان المثل يقول إن مصائب قوم عند قوام فوائد، فإن مصيبة الأزمة المالية على الشركات كانت ـ على ما أعتقد ـ فائدة لأنصار إقرار قواعد الحوكمة، ولهذا السبب بدأت نغمة الإلزام بتلك القواعد يعلو رنينها في العالم. ومع كل هذه الأسئلة الشائكة جدا فإن الحاجة تزداد إلى دعم تجريبي لأقوال المنظرين بجدوى حوكمة الشركات وجدوى كل هذا الصخب حولها ولإثبات أن هناك منفعة حقيقية من الالتزام بقواعدها، وقد قدمت لنا شركة صافولا جزءا من هذا الدليل خلال ندوة حوكمة الشركات التي نظمتها هيئة السوق المالية قبل نحو أسبوع في الورقة التي عرضها العضو المنتدب للشركة الدكتور سامي باروم. بدت الورقة معقدة في أول الأمر, حيث حاولت الإجابة عن سؤال سهل ممتنع: لماذا تحتاج شركة صافولا إلى تطبيق قواعد الحوكمة؟ لم تكن الإجابة بالطبع تخص «صافولا» وحدها, بل يمكن أن تنطبق على جميع الشركات المساهمة من حجم «صافولا». وإذا كان جزء كبير من قواعد الحوكمة يخص مجلس الإدارة فإن لدى «صافولا» 19 مجلسا وسبع لجان تابعة. من المفترض أن تكون اللجان أكثر من المجالس وليس العكس هذه هي الحوكمة, لكن الدكتور سامي كان يتحدث عن مجلس إدارة مجموعة «صافولا» التي لديها عديد من الشركات التابعة سواء تلك المملوكة بالكامل أو التي تمتلك الشركة فيها حصص سيطرة أو ذات أهمية نسبية. بالطبع فإن للشركات التابعة مجالسها و»صافولا» ممثلة في كل هذه المجالس لذلك فإن بدت لدى «صافولا» شركة بـ 19 مجلسا لكن - في الوقت نفسه - ليس لها تمثيل قانوني مباشر في لجان هذه المجالس لذلك بقيت لدى «صافولا» سبع لجان تابعة لمجلس المجموعة فقط. هذه مجرد رسالة أولية لأولئك الذين يخشون تعقيدات تطبيق الحوكمة. ورغم شكي في أن كثيرا من الرؤساء التنفيذيين لا يرحبون بفكر الحوكمة إلا أنني سعدت بعبارات الدكتور سامي وهو يؤكد أن الحوكمة فعل ثوري وليست مجرد قواعد وإجراءات قانونية ملزمة بل تتعدى كل ذلك إلى ثقافة. لعل هذه هي الكلمات المفتاح لفهم ما كان يخبئ الدكتور سامي في ورقته، فقد قادنا في سلسلة مفاهيمية مثل التواضع والأمانة باعتبارها جزءا من ثقافة الحوكمة لنصل معه إلى أهم عباراته وملخص تجربة «صافولا» (الحوكمة الجيدة في اللحظات الحاسمة: أن تعمل بما يتماشى مع ثقافتك). فهل يقصد الدكتور أن الحوكمة فعل ثقافي، لفهم ذلك علينا أن نذهب عميقا نحو تجربة الشركة. عندما حلت الأزمة المالية وانهارت الأسواق العالمية تحملت الشركة مخصصات كبيرة لمواجهة انخفاض قيم استثماراتها حيث بلغت تلك المخصصات 670 مليون ريال ولتتعرض الشركة إلى أول خسارة ربعة منذ إنشائها, كما قررت إدارة الشركة بيع الأصول التي لا تمثل النشاط الرئيس للشركة. وإذ كانت الشفافية جزءا أساسيا من قواعد الحوكمة فإن التواضع والأمانة متطلبان ثقافيان ضروريان لها, وهما جزء من منظومة مفاهيم الحوكمة عند «صافولا». نتيجة لذلك فإن الإفصاح عن هذه الخسائر, بل طريقة ذلك الإفصاح تمثل تحديا حقيقيا لإدارة لشركة، ذلك أن تحقق الخسائر وما تتبعها من قرارات بيع الأصول تعد من المعلومات التي يصعب الإفصاح عنها بطريق واضحة ومفهومة للجمهور. لكن - ووفقا لرأي الدكتور سامي وتجربته - فإن الحوكمة الجيدة ليست مجرد قيود محاسبية ولا مجرد قضايا واهتمامات قصيرة الأجل، لكنها عملية لخلق القيمة والمنفعة طويلة الأجل وحتما ستنعكس على الأداء. في هذه المنظومة المفاهيمية وإيمانا بها قامت شركة صافولا بالإفصاح عن هذه المخصصات للجمهور في مؤتمر صحافي, وهذا بدوره جعل إدارة الشركة أكثر التزاما أمام المستثمرين الحاليين والمرتقبين للعودة بالشركة مرة أخرى لتنافس بقوة وهو الأمر الذي تحقق بنهاية عام 2009 من خلال تدفقات نقدية بأكثر من ملياري ريال وتحقق تدفقات نقدية من بيع الأصول الهامشية بأكثر من 550 مليون ريال تم توجيهها للنشاط الرئيس للشركة.
ومع الإقرار بأن دليل صدق النظرية في العلوم الإنسانية يكتسب قوته فقط من خلال تأكيده بدراسات أخرى وفي بيئات متعددة، إلا أنني أعتقد أن طرح الدكتور سامي وربطه الثقافة بالحوكمة هو عمل متقن, خاصة مع تنامي الرأي بحاجة الحوكمة إلى منظومة أخلاقية لتحقق جدواها المنشودة. ومرة أخرى يظهر لنا أن الإفصاح كمفهوم قد يتحقق بنشر المعلومة في أي زاوية أو ركن كما تفعل شركات وبنوك قيادية, بل مؤسسات حكومية مؤثرة, لكنه ليحقق جدواه ومنفعته يجب أن يكون عملا أخلاقيا يشمل معنيي التواضع والأمانة.