استراتيجية وطنية.. للتطبيق وليس للتحنيط
مستويات تقدم الدول تتفاوت بتفاوت قدرتها على رسم ملامح مستقبلها والتعرف على مواطن القوة والضعف والفرص والمعوقات، فتعمد إلى تسخير الإمكانات واغتنام الفرص وتعزيز قدراتها التنافسية. لكل دولة رؤية ووجه ونهج في التعامل مع المستقبل بعضها طويلة المدى تصل إلى 50 عاماً وأكثر والبعض الآخر لا تتعدى السنوات الخمس، وهذا بالضبط ما يصنع الفرق بين الدول المتقدمة والدول النامية. الدول المتقدمة تستبق الأحداث إن لم تتسبب في صناعتها وتعمل جاهدة لتتحكم في الظروف لتكون لصالحها وليس العكس، بينما الدول النامية تدير ظهرها للمستقبل وتنشغل أو تتشاغل بالمنافع الآنية والمصالح الشخصية وتكون إدارتها إدارة طوارئ تلهث وراء معالجة مشكلاتها وسد الفجوات هنا وهناك، وما كاد تنتهي من مشكلة إلا وتتولد عدة مشكلات أخرى أعصى وأكثر تعقيدا. وقد يُظن أن الحل هو في إعداد استراتيجية وطنية تماثل تلك الاستراتيجيات في الدول المتقدمة كتابة! لنصل إلى ما وصلوا إليه من إنجاز وتقدم، ولكن هيهات أن تكون الأمور بهذه البساطة. القضية ليست كتابة استراتيجية تقليدا أعمى للغير، ضخمة الصفحات، تثير الانبهار والفخر والاعتزاز نزين بها المكاتب وخطابنا الإعلامي، وتدفع عنا سبة أن ليس لدينا استراتيجية، وإنما المسألة تتعلق بتطبيق الاستراتيجية بما في ذلك تخصيص الموارد حسب أولوياتها والالتزام بكل تفاصيلها عند جميع المستويات ومن قبل القطاعات العامة والخاصة والأهلية. الاستراتيجية بمنزلة خطة طريق وبوصلة تفيد الاتجاه الصحيح عندما تواجهنا القرارات الصعبة المؤسسية الرسمية والخاصة. فالاستراتيجية ليست من أجل التعقيد أو تصعيب الأمور أو التغني بها، ولكن جعل جميع مكونات المجتمع الرسمي وغير الرسمي أفرادا وجماعات على بينة من الأمر ليعلم كل واحد أن إسهامه وعمله الفردي مرتبط بعمل جماعي، وأن العمل الجماعي متعلق بالمصالح العليا للوطن. وإذا ما تم الوصول إلى هذا المستوى من النضج في التفكير الجماعي والنظرة المشتركة تحقق الهدف الأساس من الاستراتيجية وزاد الوعي بأهداف العمل ومقاصده والربط بين المدخلات والمخرجات. إن المشروع التنموي الوطني أشبه ما يكون بتشييد مبنى يتطلب تنسيق العمل فلا جدار يبنى ولا عمود يقام إلا حسب الخريطة، حيث لا يقدم عمل شيء ولا يؤخر عن موعده وإلا تعطل المشروع. هكذا حتى على صعيد الدول، فكلما كان هناك خريطة واضحة المعالم ينتظم المجتمع ويكون بناؤه قويا متماسكا ويؤدي إلى نتائج باهرة والعكس صحيح. إن تفوق الدول المتقدمة ليس بأفرادها، وإنما بانتظامها التي استطاعت من خلاله أن توحد الصفوف وتنسق الجهود للوصول إلى غاية يدركها الجميع ويسعون لتحقيقها.
لم تعد الاستراتيجية ترفا إداريا أو سياسيا وإنما ضرورة تحتمها الظروف الحالية للعالم وشدة المنافسة وسرعة التغيير، خاصة في مجال تقنية المعلومات والتحضر وزيادة الوعي السياسي وغيرها. وإذا صح ذلك – وهو صحيح كما هو مشاهد ومحسوس - فإنه يتحتم أخذ إعداد الاستراتيجية الوطنية كمسألة وطنية جادة، وبالتالي وضع رؤية واضحة ومحددة لما نطمح أن نكون عليه بعد 30 أو 40 عاما من الآن. فالفكرة هنا أن بناء المجتمع وتطويره يتطلب وقتا طويلا فلا نستطيع أن نتحول إلى ما نريد بين ليلة وضحاها، لأنه ببساطة غير ممكن تقنيا ومستحيل زمنيا، إلا أن تحدث معجزة! فولادة الشيء تأخذ وقتا. ولذا كان علينا للوصول إلى المحطة التالية ركوب قطار التنمية وبذل الجهد والموارد والوقت، ولذا فالرؤية يجب ألا تكون أماني وردية نطرب لها وتدغدغ مشاعرنا وننتشي الإنجاز الخادع، لا تحرك عضلاتنا، ولا تحفز إشارات التفكير في عقولنا، ولا الميل النفسي نحو عمل الأفضل. هذه الرؤية المطاطة التي لا تحدد وجهتنا وتخبرنا بمبررات هذه الوجهة ليقتنع الجميع بها ويعملون على تحقيقها، تكون حبرا على ورق لا تستحق حتى ثمن الحبر الذي كتبت به. الأدهى والأمر أن يفقد الشباب الثقة بالحديث عن المستقبل وأن يتربى المجتمع على التفكير في يومه دون غده، وهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى. وإن كان من بيننا من يحمل هم التطوير والتنوير والطموح في الانتقال نحو العالم الأول، فلن نستطيع لذلك سبيلا بالرؤية الوطنية الحالية التي تقول كل شيء لتكون لا شيء، وتتحول إلى وسادة وثيرة ينام عليها المجتمع ويغط في سبات عميق كما البيروقراطيات العامة المسؤولة عن إدارته ورعاية شؤونه وتطبيق استراتيجيته المطاطة! الأماني والتطلعات حق مشروع لكل مجتمع، ولكن المجتمعات التي تنجح في تحقيق أمنياتها هي التي تكابد وتجاهد من أجل نيل مرادها، وكما يقول الشاعر “وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.
السعودية لديها كثير من مقومات الحضارة والنهوض والتقدم، ولكن تتطلب رؤية صريحة واضحة تحدد معالم الطريق، وتدفع نحو تحقيق مستوى أعلى من التحضر والتقدم الصناعي. لقد أصبح من الضروري التفكير في الغد عاجلا غير آجل، فالمستقبل يبدأ من الآن من هذه اللحظة. هناك من يعتقد أن التفكير في المستقبل يعني صناعة القرارات في المستقبل، ولكن حقيقة الأمر أن قرارات المستقبل تصنع في الحاضر، حتى إذا ما جاء المستقبل كنا على أهبة الاستعداد للاستفادة من إيجابياته والتخفيف من سلبياته. المشروع التنموي الوطني يتطلب إعداد المجتمع للمستقبل، وجعله أكثر دراية ووعيا وقوة وحصانة، وذلك عبر استراتيجية وطنية نستطيع ونرغب كمجتمع في تطبيقها، ولا تكون حبرا على ورق. ما يجب أن ندركه جميعا، هو أننا نعيش في السفينة نفسها مصيرنا واحد، ومصالحنا مشتركة، ومترابطة، ولا يمكن التجديف بعشوائية دون وجهة واضحة، وإلا ظللنا ندور في المكان نفسه حتى مع الجهد الكبير والإنفاق السخي والنوايا الحسنة.