علم الإدارة بمنظور شعبي (1): "ما لك إلا ولد يقرأ"

علم الإدارة بمنظور شعبي (1): "ما لك إلا ولد يقرأ"

في زيارة لأحد أشهر مصانع المولدات الكهربائية في بريطانيا، استقبلنا بنفسه صاحب المصنع الذي لم تستطع عقود من الغربة إخفاء اللهجة المصرية من بين ثنايا رجل الأعمال المصري الأصل الذي أمتعنا بحديثه الذي يستحق مقالا لوحدة لكنني أتوقف عند قوله لنا –مترجما- "من السهل أن تصنع شيئاً معقد لكن من الصعوبة أن تصنع شيئا مبسط" ...و هكذا فانه من السهل أن نعقد الأمور و نخلط الحابل بالنابل فتبدو الأمور معقدة و صعبة رغم سهولة الفكرة لكن تبقى الصعوبة في تبسيط الفكرة.
في هذه السلسلة سأحاول –دون لي أعناق النصوص- أن أبسط بعض المفاهيم الإدارية من خلال تشابهها مع بعض الأقوال أو الأمثال الشعبية و لعلي أيضا أهدف –في الأساس- إلى تأصيل تلك الأقوال التي لم تأت من فراغ بل من حكمة و تجربة قائليها !

"ما لك إلا ولد يقرأ" هذه المقولة تعني الكثير و تتطابق بشكل عجيب مع عدة مفاهيم إدارية سنتطرق لها لكن دعونا نشرح المثل لمن لم يسمع به من قبل:
المثل كأنه أتى على لسان مدرس يقول لولي الأمر الذي يوصيه ب الاهتمام بابنه بان يبشر بخير و هو –المدرس- سيتكفل بجعل الولد يقرأ لكن لا تسأل عن الوسيلة أو الطريقة –و البركة في العصا و أسالوا جيلا يذكر كوابيسها-

و عند تشريح المثل إداريا نجد الآتي:
1 - تحديد الهدف : أن يستطيع الولد القراءة و يقابلها (Key Performance Indicator) أو اختصارا KPI و هي مؤشرات الأداء التي تستخدم لقياس الأداء و من ثم تحديد المكافأة أو مناقشة أسباب التقصير و بتحديد الهدف مقدما يمكن للطرفين مناقشة النتائج في النهاية و لا يفرق كثيرا إن كانت مؤشرات الأداء لموظف أو لإدارة أو وحدة أعمال أو حتى شركة بكاملها.
مؤشرات الأداء موضوع كبير لكن الأهم أن تنتقل الأمور من فوضى أو عدم وضوح إلى أهداف محددة و تستخدم عدة أساليب لتحديد الأهداف أشهرها (SMART) التي تعني أن يكون الهدف: Specificمحدد-
Measurableيمكن قياسه
- Attainable يمكن الوصول له
- Relevant له علاقة بالموضوع-
Time-bound محدد بزمن

و كل تلك المقاييس محدده ضمنا في حكمة مدرس الكتاب(بضم الكاف و تشديد التاء) الذي تعهد أن الولد سيتمكن من القراءة!
2- لكن كل ما ذكر هو جزئية بسيطة من المثل و الأهم هو أن المثل يشير إلى فلسفة إدارية مهمة جدا و مطبقة بشكل كبير و واضح و تتلخص في أن من يحدد مقاييس الأداء ليس له دخل أو شأن في تفاصيل العمل و إدارة العمل متروكة للطرف الأخر فله الحرية في الإدارة مادام ملتزما بتحقيق النتائج المتفق عليها سلفا.
ما عنيته بالتحديد هو ما يسمى (Black Box) ولا أقصد الصندوق الأسود الذي نسمع عنه في حوادث الطيران كفانا الله شرها و الذي هو في الحقيقة صندوقا برتقالي اللون لكنه سمي بالأسود ربما تشبها بصندوقنا الأسود الذي يهدف إلى التعامل مع المخرجات و توفير المدخلات لكن لا تتحدث عن التفاصيل فهي لك –كمدير أو مسئول- صندوق أسود ليس لك أن تضيع وقتك في معرفة تفاصيله و أعتقد أنه بالضبط ما عناه صاحب المثل حين قال لولي الأمر "مالك إلا ولد يقرأ" ربما لان الأب غثهم بكثرة السؤال و التدخل بالتفاصيل!!
الصندوق الأسود (Black Box) هو أحد مفردات علم التفكير النظامي (System Thinking) الذي يعني و يهتم بالنظرة الكلية للمنظمة و يتعامل مع أي تحدي أو مشكلة بنظرة كلية لأن حل المشكلة في عالم معقد قد يتسبب في خلق مشكلة أخرى لكن بالنظرة الكلية للنظام نستطيع التوصل إلى حلول لجذور المشكلة و من ثم إيجاد حل أعمق و أطول مفعولا و ليس مؤقتا قد يتسبب في مشاكل أكبر.

أعتقد الآن نستطيع أن نشاهد تطبيقات فكرة الصندوق الأسود (Black Box) حولنا فمثلا هذا المقال هل نشر بعد موافقة رئيس التحرير أو مدير التحرير –أتمنى ذلك- لكن الأكيد أن المسئولية في الجريدة موزعة حسب الصفحات و يبقى دور الإدارة العليا في تحديد الضوابط و المخرجات المطلوبة و بذلك نستطيع أن نقرا الجريدة يوميا و إلا أفنى رئيس التحرير حياته في قراءة كل حرف و كلمة! التطبيقات كثيرة و الدول تدار من خلال وزارات و كل وزير يمثل الرئيس في شئون وزارته وفق المؤشرات و المقاييس و قس على ذلك المنظمات و الشركات التي يتطلب التدخل في تفاصيلها الكثير من الوقت و الجهد.

الإدارة باستخدام فلسفة الصندوق الأسود تصلح كثيرا للأقسام الثانوية أو التي تتطلب تفاصيل فنية أو تعقيدات كثيرة و هي تعتبر حلا كبيرا للمركزية التي تستهلك وقت الإدارة العليا الذي ينبغي أن يصرف لأبعاد إستراتيجية كما أنه يعطي الإدارات الفرعية شيء من الاستقلالية (Autonomyِ) التي تخلق جوا من الإبداع لكنه مبني على الثقة في الآخرين كما تنص عليه نظرية Y (Theory Y) التي طورها العالم McGregor في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) و التي تنص على أن العاملين لديهم الكفاءة و التحفيز الذاتي الذي يجعلهم يعملون بكفاءة دون رقابة و ملاصقة.
و لعل هذه الثقة هي مصدر اطمئنان الأب الذي ترك مهمة تعليم ابنه لصاحبنا القائل:"ما لك إلا ولد يقرأ

الأكثر قراءة