«روبيرتو إلياندا» وكتابُ المسلمين المقدّس

* أهلاً بكم في مقتطفاتِ الجمعة رقم 336.

حافزُ الجمعة: الفشلُ ليس جغرافيا، الفشلُ ثابتٌ للسببِ والظرف اللذَيْن سبَّباه، ولا ينتقل مع تغيرهما. فشـَل ''عباس العقاد'' طالباً ومدرِّسا ومدير مدرسة، وصار من أعظم العقولِ الأدبية العربية في الأزمان الحديثة، وفشل ''وليم شكسبير'' كتاجر صوفٍ ليصبح أنهض قامة أدبية في تاريخ إنجلترا، وفشل ''نابليون بونابرت'' ككاتب مقالةٍ ليصبح إمبراطور فرنسا الأشهر، وفشل ''أبراهام لنكولن'' كأمين مخزن، وصار رئيس أمريكا المحرّر، ومُلهم روح الأمة الأمريكية.. وفشل ''بيل جيت'' في الجامعة ليبزغ قائداً كونيا معلوماتيا. الفشلُ لا ينتقل معك حينما تغير مكانك.. أو تحسّن منه.
***
* التفتَ إلي جاري بالطائرة وقال لي: ''أنتم اللاتينيون تحبون الكلامَ، أتتكلم الإسبانية؟'' فحبـَكتْ معي وقلت له إني برازيليٌ أتكلم البرتغالية، على أنني أفضل الإنجليزية. عرّفت أنه طبيبٌ أمريكي بورتوريكي، عمره تسعون عاماً، تدور الدماءُ محموسة بعافيةٍ دفاقة على أدمَته السميكة، وتفوح من عينيه بشائرُ طاقةٍ تحيط بك كهالةٍ من الفورةِ المبهجة.. وعن سرّ عمرِهِ المديدِ وصحّته، يقول: ''أتعرف ما يسمى بالطبّ (ظاهرة التهور المحصّن)؟'' قلت له: تعني ''ظاهرة تشرشل؟'' (عاش ''ونستون تشرشل'' عمراً مديداً موفور العافية، رغم عاداته غير الصحية، فهو سمينٌ للغاية، قليل الحركة، أوقات فراغه القليلة يقضيها جالساً للرسم، تعرض لكل أنواع الضغوط النفسية من قلقٍ وكآبة وخوف على مستوى مسؤوليةِ أمّة، لا يتوقف عن الكحول، ولا يتوقف عن السيجار إلا لالتقاط النفس.. وعصبي المزاج، قيل إنه مات لم يعرف كيف تصنّف أطباعُ شخصيته..) ويتابع جاري الدكتور ''روبيرتو إلياندا'' المتقاعد: ''تعلمت ببلادي على يدِ معلـّمٍ من أصلٍ سوري، أشار علي أن أقرأ ترجمة للقرآن كلما عاكسني الزمان. من أكثر من سبعين عاما إلى اليوم ما زلت ألجأ لكتاب المسلمين المقدّس الذي أحتفظ به من ذلك الحين.'' ثم أخرج من حقيبته الجلدية العتيقة كتاباً ذهَب لونُه، فإذا هو ترجمةٌ للقرآن الكريم بالإنجليزية، طـُبع بمدينة ''بمباي'' في عام 1929م، وغاب اسمُ واضِعِهِ لتآكل الحروف.. تناول الدكتورُ ''روبيرتو'' كتابَه الأثيرَ مني، وفاجأني أن قبـَّـلـَه، وأعاده للحقيبة المتهالكة، فسألته: ''هل أنت مسلم؟'' أجاب: ''لا، أنا كاثوليكيٌ غير ملتزم، لا أرتاد الكنيسة، وأمارس ضدّ ما يبشر به الدليلُ الطبي. ونصيحتي لك؛ لا تعتمد على ما يُقال لك، ابحث عما يطمئن إليه قلبُك، وسيعطيك كما ترى.. ''، ثم عصرَ يدي بقبضتِهِ الحديدية، حتى كدتُ أنادي طاقمَ الطائرة من فرط الألم. ضحِك.. ثم نام طيلة الرحلة بعد أن شرب حتى الثمالة. ''روبرتو'' لم يستيقظ إلا في آخر الرحلة، واعترّفتُ له بكذبتي، وردّ علي وهو يتناول حقيبته الأثرية مغادراَ: ''باي.. ومن يهتم؟!''.
***
* شخصية الأسبوع: الموظفُ الجيد، هو من يلتزم بكل واجباتِ مسؤوليته كما يمليه توصيف الوظيفة، وعندما يتعداه إيجاباً بدافع التركيبة النفسية والعقلية والأخلاقية، فهنا يكون موظفاً مثاليا، بل أكثر: إنسانٌ مثالي. الأستاذ ''حسن علي الجاسر'' مدير عام مكتب أمير المنطقة الشرقية ليس فقط موظفاً كبيراً، إنما عقلٌ وقلبٌ كبيران. للرجل ولعٌ بالناس، فهو اجتماعي، وليس كما يدور في صفات النخبةِ ''وجهاً اجتماعياً''، فالوجهُ الاجتماعي من يطلب الشهرة أو تطلبه، والجاسر رجلٌ يختلط مع جموع الناس من أصدقاء ومعارف وبالمجالس. ثم إنه في طبيعته مثقفٌ وكاتب عمودٍ في جريدة ''اليوم'' محسوبٌ على فئةٍ مهمة لصناعة الرأي. مارس عملـَه الأولَ في واحد من أرقى الأجواء الأكاديمية في البلاد بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وهو محسوبٌ من وعلى المجتمع الأكاديمي. أما صفته التي تجعلني أتطلع إليه أكثر، هي الصفة المتعلقة بالتطوير لمجتمعه من واقع العملِ والتشجيع على العمل التطوعي والإنتاجي الاجتماعي، ولا يخفى من أعمالِهِ أنه وراء نجاح صندوق الأمير سلطان للمشاريع النسائية، الذي تبناه سموُ الأمير ''محمد بن فهد بن عبد العزيز'' شخصياً، وأدارته بكفاءة الأستاذة ''هناء بنت عبد المحسن الزهير''.. ثم إن الأستاذَ الجاسر وجهٌ طلِقٌ دائمُ الابتسام.
***
* وصلتني هذه الرسالة من مدينة ''ريتشموند'' الأمريكية بالإيميل:'' قرأت ما كتبته عن الدمع وكارثة ''هايتي''... أنا مدرِّسة رياضيات فلسطينية ـ أمريكية، أكتب لك بالإنجليزية إلا أني أقرأ وأكتب باللغة العربية مع أني من الجيل الثالث. غادر جَدّي''غزة'' في فلسطين إلى الكويت، واستقرّ نهائيا في الولايات المتحدة الأمريكية. وسأعطيك فقط مشهداً واحداً للبكاء، وهو ليس كارثياً يتحقق مرة ثم ينتهي، بل متكررٌ من الولادةِ حتى اليوم لأطفال غزّة الذين يذهبون للمدرسة، أو للمستوصف، أو حتى لشراء حاجةٍ من دكان، والبنادق الإسرائيلية تثار في وجوههم، والضربُ اليومي من الجنود الإسرائيليين للبنات والأولاد، ومنعهم كل يوم من إكمال أي طريقٍ كان كما يفعل أطفالُ بقية الشعوب.. ولن أقول لك عن القهر والموتِ والمرض والفقرِ والمجابهةِ اليومية مع الرعب وترقبِ غدٍ قد يأتي وقد لا يأتي.. معاناةٌ أشدّ واقعية وألما من أي ملحمةٍ من ملاحم العذاب لإغريقي.. صدقني أن ''سيزيف'' يحب صخرته التي ينقلها إلى الأبد ثم تتدحرج ليعيدها، أكثر من مواجهة عذابات أي طفلٍ أو طفلةٍ فلسطينية في التاسعة من العمر في كل لحظة .. فعلى من ستبكي؟!'' سماء سمير- ريتشموند.
في أمان الله..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي