Author

التخلف الاقتصادي والسياسي بين الغرب والذات

|
الاستراتيجيات الاقتصادية الغربية متعددة، بتعـدد موضوعاتهـا. فهنـاك الاستراتيجية النفطية والاستراتيجية المالية، والاستراتيجية التجارية، والاستراتيجية الصناعية... إلخ. ورغم أن هذه الاستراتيجيات تختلف في موضوعها إلاّ أنها لا تختلف في أيديلوجيتها التي تنبثق منها الاستراتيجية وآليتها الأساسية. وهذه الأيديلوجية هي النظام الاقتصادي الحر، أو الرأسمالي كما أسماه الناقد الأكبر للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية كارل ماركس Carl Marx. ويلاحظ طالب علم الاقتصاد أن هناك خلطا كبيرا وفهما سطحيا عاما للقواعد الأساسية للنظام الاقتصادي الحر أو الرأسمالي وآليتـه ولكـن المقام وزمـن المقال لا يسمحان بمناقشة هذه النقطة. فكثير ما رُبط بين النظام الاقتصادي الحر كمنظومة اقتصادية، ترسم منهجاً ليبرالياً لإدارة الاقتصاد للوصول إلى الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية وبين الاستغلال والتسلط والاحتكار الاقتصادي الذي مارسه ويمارسه الغرب في تعامله الاقتصادي مع دول العالم العربي. ولكي يكون حديثنا أكثر تركيزاً على الجانب الاقتصادي، فإنه من الأفضل أن نقفز فوق تلك الحقبة الاستعمارية التي كانت العلاقة فيها بين المستعمِر والمستعمَر تقوم على الهيمنة العسكرية للأول على الثاني، فقد اختفى الاستعمار بزيه العسكري وإن كان حاضـراً بأزياء أخـرى، وغاب المندوب السامي وحل محله المندوب الأهلي. القوانين التي تحكم العلاقة بين الطرفين هي قوانين يفترض أنها تنظم العلاقة الاقتصادية بين دولتين ذاتَي سيادة، وإن استملك الغرب بعضاً من حقوق الطرف الآخر فذلك ليس بفعل القوة العسكرية والاستعمارية كما كان الأمر سائداً حتى منتصف القرن الـ 20 وإنما بفعل عوامل أخرى. في زمن ما بعد الاستعمار والاستغلال الاقتصادي، تغيرت العلاقة بين الغرب والشرق من حيث قدرة الغرب على الحصول على الموارد الأولية من الدول العربية وكأنها جزء من ثرواته وممتلكاته، فأصبحت هناك اتفاقات ومعاهدات تنظم التبادل التجاري والاستثماري بين الطرفين، وإن كانت اتفاقات غير متوازنة. عندما أنفك الطرفان، من علاقة السيد بالعبد أو المستعمِر بالمستعمَر، عاد كل طرف إلى داره يُعِدٌ قواعد لعلاقة جديدة. الغرب أبدل الوسائل، بوسائل أكثر ملاءمة للعصر وطبيعة العلاقات الدولية ووعي شعوب العالم الثالث بحقوقها، لكنه لم يبدل الهدف أو النتيجة التي يرجوها من استعمال تلك الوسائل. فهدفه كان ولا يزال الاستغلال الأكبر للموارد الاقتصادية للدول الأخرى من أجل تعظيم مصالحه الاقتصادية الوطنية وزيادة إنتاجه المحلي ورفع مستوى الدخل لمواطنيه وحماية مصالحه السياسية والاستراتيجية. وفي عالم تطغى فيه المصالح القطرية أو الشعوبية على العالمية ويعز فيه التزام القوي بمبادئ العدالة الدولية، فإنه لا غرو أن يكون هذا الهدف هو هدف أي دولة. ويبقى الفارق في القدرة على التطبيق. إننا عندما نتحدث عن الغرب، فإنما نعني بذلك تحديداً الحكومة الغربية ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولا نعني بذلك القطاع الأهلي ومؤسساته المدنية. وعلى الرغم من أهمية هذه التفرقة، إلا أنه في كثير من الأحيان تضيق الفجوة بين هاتين المجموعتين ليصبحان وجهين لعملة واحدة، خصوصاً في أيام الحرب أو عندما يتعلق الأمر باقتصاديات سلعة استراتيجية كالبترول أو اليورانيوم أو غيره، أو علاقة بدولة تمثل بعداً استراتيجياً للدولة الغربية كإسرائيل للولايات المتحدة، ولكن على الرغم من هذا وذاك تبقى هناك مساحة كبيرة لعلاقات اقتصادية بين الشعوب، تقوم على مبدأ المزايا النسبية Comparative advantage بين الدولتين تستورد كل دولة ما تنتجه الدولة الأخرى، بتكلفة أقل وسعر أقل. لقد أرست مبادئ الاقتصاد الحر قواعدها على الساحة الاقتصادية المحلية في الـدول الغربيـة ورسمت إلى حد كبيـر مجال التعامل بين هذه الدول ومثيلاتها من الدول الصناعية الكبرى، أما العلاقة بينها وبين دول العالم الثالث فما زالت تخضع لشيء من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية كلما كان ذلك ممكناً. ويستثنى من ذلك سوق المال العالمي Capital Market، الذي تعدت عملياته وآلياته قدرة المؤسسات الحكومية السيطرة الكاملة عليه، فخرج عن طاعتها وتمرد على سيادتها وأوجد له وطناً خارج الأوطان السياسيـة، والمثال التقليـدي على ذلك هو سوق الدولار العالمي Eurodollar والصناديق الاستثمارية العالمية Funds وسوق السندات الدولي Bond Market وغيرها. ويجب ألا يفهم من ذلك أن أسواق المال العالمية هي خارج نطاق تأثير السلطات المالية والنقدية الغربية بشكل قاطع، فهذه السلطات تستطيع إن هي أرادت التأثير في حركة الأموال، وأسعار الفائدة، وأسعار العملات. الغرب كما أسلفت، وإن أبدل الوسائل التي كان يتعامل من خلالها مع دول العالم العربي في عهد ما قبل الاستقلال، ظل نظامه الاقتصادي الداخلي قائما على الإنتاجية والإبداع الفردي ضمن إطار قانوني يحمي حرية الاستثمار والاستهلاك وحرية المنافسة وحركة المال والعمال. لا شك أن هناك انتهاكات لهذه المبادئ الاقتصادية أحياناً في المجتمعات الغربية، لكن المبدأ الغالب يظل قائماً على احترام حرية الفرد وسيادة القانون. أما دول العالم الثالث فقد ورثت تركة اجتماعية واقتصادية وسياسية مهلهلة البنيان، ضعيفة التكوين، مزروعة بالألغام. الجهل والفقر والشقاق من أبرز معالم التركة. خرج مستعمر أجنبي وجاء مستعمر محلي، فلم يحل العدل بدلاً من الظلم ولا الحرية بدلاً من القهر، وإن كان هذا هو حال الأغلبية إلاّ أنه لا يقبل التعميم، فقد استطاعت بعض دول العالم الثالث بشيء من العزم والحزم تجاوز مرحلة ما بعد الاستقلال، فأقامت الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتينة لبناء مجتمع جديد، مشت خطوات بطيئة ولكن ثابتة في اتجاه دولة القانون والمجتمع المدني. إن معظم هذه الدول مع الأسف الشديد هي خارج المجموعة العربية التي لم تستطع الخروج من مرحلة ما بعد الاستعمار، ليس فقط بما ورثته من بقايا الاستعمار، ولكن أيضاً بما لديها من تراث وتقاليد لبست في كثير من الأحيان ثوب الإسلام والقدسية، والإسلام في حقيقته وجوهره منها براء قد وقفت سداً منيعاً أمام تقدم شعوبها، وحجبت النور عن عقولها. إنه تراث عهد التأخر والتخلف، عهد ما بعد صدر الإسلام وقرونه الأولى، عهد انهزام العقل وتسلط النقل. الاستراتيجيات الاقتصادية التي أعدها الغرب لتُؤسِسِ علاقته بالعالم العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال لم تكن سياسات اقتصادية محايدة، تنبع من طبيعة الفعالية الاقتصادية ذاتها، زراعية أو صناعية أو خدمية أو مالية أو نفطية، وتحكمها قوى العرض والطلب، واليد الخفية، ونبذ الاحتكار والاعتماد على المنافسة الحرة. لم تكن كذلك أبداً، وإنما كانت سياسات توجهها سياسة تعظيم المصلحة الوطنية الغربية على حساب الطرف الآخر وتدعمها سياسات حكومية مستترة أحياناً وأحياناً ظاهرة، وإن لبست في كثير من الأحيان ثوب الحرية الاقتصادية والحرية الاقتصادية لا تقر بذا وذاك. ويحضرني في هذا المجال سياسة الغرب النفطية التي هندس نُظمها ووجه مسارها وزير الخارجية الأمريكي المعروف هنري كسينجر، بعد زيادة أسعار النفط عام 1973م، وسيطرة الدول المنتجة للنفط على قرار الإنتاج والسعر. لقد حشدت الولايات المتحدة لهذه السياسة كل أنواع الدعم السياسي والمالي والتقني، ودفعت إن لم نقل أجبرت الدول الأوروبية للانضمام إليها في تبني سياسة محاربة دول الأوبك، وعلى رأسها الدول العربية، وسخرت لخدمة أهداف خطتها، ولو بشكل غير مباشر المؤسسات الدولية كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير IBRD، وصندوق النقد الدولي IMF التي دعمت ومولت عمليات البحث عن النفط وإنتاجه من خارج دول الأوبك، ولو بتكلفة إنتاج باهظة. لقد تكللت بالنجاح خطط الولايات المتحدة، ومعها الدول الصناعية الكبرى الرامية إلى إحكام سيطرتها على سوق النفط العالمي، والتأثير في أسعاره وذلك بفعل ثلاثة عوامل رئيسة هي: أولاً: تغليب السياسة على الاقتصاد في معادلة الاستخدام الأمثل للموارد النفطية داخل كل دولة من دول الأوبك. ثانياً: سقوط الدول المنتجة للبترول، خصوصاً العربية في فخ تعاظم الاستهلاك الذي قادتهم إليه الدول الغربية، فزاد حجم الواردات ومديونية الدولة، وصار على الدولة زيادة الإنتاج من خام النفط، فشربت الأسواق حتى ارتوت، وامتلأت المخازن الغربية الاستراتيجية حتى طفحت، وانخفضت أسعار النفط حتى سجدت (وصل سعر البرميل من النفط عام.. إلى ستة دولارات..). ثالثاً: التناحر والتنافر بين دول الأوبك رغم وجودها تحت مظلة واحدة ومواجهتها لخصم متحد. رجل السياسة قد لا يرى في استخدام الدولة الغربية لنفوذها السياسي والعسكري للتأثير في المعاملات الاقتصادية غرابة في الأمر، فالقضية بالنسبة له لا تعدو أن تكون جزءًا من اللعبة السياسية بزيها الاقتصادي، أما الاقتصادي الليبرالي، فإنه يرى في ممارسة الدولة الغربية أنواعاً من الضغوط السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية لترجيح كفة المعاملات التجارية الدولية لصالحها خروجاً على منهج الاقتصاد الحر ومبادئه الذي تتبنـاه الدول الغربيـة وتنادي به منهجاً اقتصادياً للعالم. إنه الفرق بين المبدأ والواقـع يظل المبدأ مرجعاً مهما، ويظل الواقع نقطة على خط الزمـن يحدد المسافـة بين الأمل وواقع الحال، بين الحاضر والمستقبل. إذن، نحن نقول: أولاً : إن الاستراتيجيات الاقتصادية الغربية تجاه دول العالم الثالث، ومنها العالم العربي لا تحكمها وتنتج سياساتها، النظرية الاقتصادية الحرة كما هي الحال في العلاقات بين الدول الغربية الصناعية المتقدمة. ثانياً: إن القوة السياسية والعسكرية التي تتمتع بها الدول الغربية بحكم تاريخها الاستعماري وتطورها التقني، تلعب دوراً مهما في رسم الإطار العام للاستراتيجيات الاقتصادية الغربية تجاه العالم الثالث كلما كان ذلك ممكناً. ثالثاً: إنه في ضوء العلاقات الدولية الجديدة لمرحلة ما بعد الاستعمار، فإن القوة السياسية والعسكرية والاحتكارات الاقتصادية لدول الغرب، ليست شرطاً كافياً لبناء استراتيجية اقتصادية غربية قائمة على علاقة أحادية استعمارية استغلالية تجاه دول العالم الثالث، كما كان الأمر سابقاً. رابعاً: إن التكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع في الدولة العربية يلعب دوراً أساسياً ومهما في رسم الاستراتيجية الاقتصادية التي تحكم العلاقة بين الدولة الغربية والدولة العربية. فكلما كانت الإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة العربية قائمة على الحرية بمفهومها الفردي والمؤسسي، كلما كانت الاستراتيجية الاقتصادية الغربية مع تلك الدولة أكثر توازناً واعتدالاً وأقرب إلى مبادئ النظام الاقتصادي الحر. بمعنى آخر، كلما كان الواقع الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة العربية قائماً على احترام حقوق الإنسان بمفهومه الحضاري والتراثي، في ظل إطار من الحرية التي تؤمن بقيام مجتمع مدني يحكمه القانون العادل ويحفظ للرأي الآخر حقه في الوجود، فإن الغرب المؤمن والممارس للحرية في بيئته وبين أهله لا يجد بداً من احترام رأي تلك الدولة والاهتمام بمواقفها الاقتصادية والسياسية والتعامل معها بشكل أكثر توازناً واعتدالاً واحتراماً.هذا بالطبع لا ينفي إمكانية قيام أي دولة ذات قوة عسكرية باستخدام قوتها في فرض ما تريد، تحت مظلة المصلحة الاستراتيجية العليا، ولكن يبقى ذلك الأمر في الإطار المحدود وليس العام. كما أن توجه السياسة الدولية في إطار العولمة يبدو أنه سائر في اتجاه دعم سيادة القانون الدولي رغم انفراد الولايات المتحدة والدول الغربية العظمى بالمسرح السياسي الدولي بعد غياب الاتحاد السوفياتي. إن أنثروبولوجيا الحضارة الإنسانية، تتناقض مع مبدأ الأحادية والاحتكارية وتميل إلى الحرية والتعددية والمنافسة، ولئن انحسر هذا المجال في الظروف الراهنة إلاّ أن المستقبل واعد ويحمل في طياته ولادة أقطاب جديدة مثل دولة أوروبا المتحدة واليابان وروسيا والصين وغيرها. بعد بزوغ فجر الاستقلال السياسي وبداية انحسار العهد الاستعماري، درج معظم النقاد والباحثين خصوصاً من أهل اليسار السياسي في العالم الثالث ومنه العربي على إلقاء اللوم بشكل قطعي وكلي على الدولة الاستعمارية فيما يتعلق بتدهور الأوضاع المحلية وانهيار خطط وبرامج الحكومات الوطنية الاقتصادية والسياسية، وقد يكون فيما ذهبوا إليه شيء من الحقيقة خصوصاً عند الحديث عن حالة معينة أو موقف محدد، إلاّ أنهم في تعميمهم هذا يغفلون وبشكل كامل دور العامل المحلي في خلق أو دعم الفساد ونشره، سواء كان ذلك على المسرح الاقتصادي أو السياسي. هذا الفساد الوطني هو الغائب الحاضر في معادلة التخلف، غائب عن النور وحاضر في كل الأمور. إن الفقر والجهل والتخلف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لا بد أن يُخرج من ثناياه فساد وطني يؤسس القاعدة المحلية لاستقبال وتفعيل الاستراتيجية الأجنبية لاستغلال الموارد الوطنية الاقتصادية وغير الاقتصادية، هذا العامل المهم أي الفساد الوطني لم يعط وزنه في معادلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في دول العالم الثالث من قبل النقاد ودعاة الإصلاح، حيث جيروا هذا الفعل إلى الدور الأجنبي كلياً، وبقي الدور المحلي نظيف المظهر عفن المخبر. لقد بدأ الوعي العربي كسر الحاجز النفسي والتراثي المحيط بنقد الذات، فنفذت إلى داخلها سهام ذات خطابات نقدية جيدة، بدأت بالتراث والنظام المعرفي والعقل العربي والقائمة تكبر والدائرة تتسع، حتى تَـحُـدث القطيعة مع الظلام الذي سيطر على الفكر العربي ليسترد العقل العربي مكانته والعلم حاكميته. صحيح أن معظم النقد منصب على الجوانب التراثية والاجتماعية والاقتصادية متجنباً إلى حد ما النظم السياسية، وذلك بسبب ضيق مساحة الحرية في هذا المجال، إلاّ أن المد الفكري الليبرالي لن يقف عند حد، فأول الغيث قطرة. لقد تبدلت منظومة العوامل Factors الداخلية والخارجية في معادلة التنمية، من حيث أهميتها في التأثير في النتيجة - أي التخلف والتقدم - وذلك بفعل التغير الذي طرأ على طبيعة الظروف الدولية والقانونية التي تحكم العلاقة بين الدول في نهاية القرن الـ 20 وبداية القرن الـ 21، فأصبح دور العامل المحلي أو الوطني في التأثير في الناتج النهائي لمعادلة التنمية أكثر أثراً وأهمية من العامل الأجنبي. لذا، فإنني أحمّله، أي العامل الوطني - المسؤولية الأولى، في توجيه مسار التنمية وتحقيق نتائجها النهائية. تأسيساً على ذلك وبناء عليه، يمكن القول إن الجهد الأعظم والفاعل لدفع حركة التنمية ودعمها بجميع جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لإنتاج منافع أعظم للأمة، يجب أن ينصب على العامل الداخلي قبل الخارجي. إن طبيعة العلاقات الاستراتيجية الاقتصادية بين الغرب والعالم العربي تحكمها عوامل عدة، وتؤثر فيها وفيها ظروف كثيرة ولكن العامل الداخلي بجميع جوانبه يبقى الأكثر فاعلية في تحقيق نتيجة عادلة ومتوازنة في طبيعة العلاقات الاستراتيجية مع الغرب. ختاماً، فإن توازن الاستراتيجيات الاقتصادية الغربية في العالم العربي من حيث المضمون والفائدة يحدده عاملان رئيسيان. الأول: العامل الخارجي - أي المتعلق بمصالح وشؤون الدولة الغربية. الآخر : العامل الداخلي - المتعلق بمصالح وشؤون الدولة العربية. وخطابنا هنا يقول إن العامل الخارجي في معادلة العلاقة الاستراتيجية مرتبط بشؤون الدولة الغربية ومصالحها وبالتالي فإن درجة التأثير فيه، من قبل الدولة العربية لا وجود له. أما العامل الداخلي الممثل للعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية، فإن التأثير فيه يقع إلى حد كبير في يد السلطة المحلية ومؤسسات المجتمع المدني. وكلما كان هذا العامل الداخلي، مؤسساً على قواعد حضارية، علمية، وطنية، ترتبط جذورها بالحرية الفردية والجماعية، كانت العلاقة الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية بين الغرب والدولة العربية أقرب إلى التوازن. إن الصراع اليوم بين الأمم ليس صراع ديانات، كما تدعيه المدرسة الدينية المتطرفة يهودية أو مسيحية أو إسلامية، ولكنه صراع حول مساحة الحرية الداخلية بفروعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتاحة للعقل البشري ليرشد القرار ويصلح الفساد ويقود حضارة الإنسان إلى الأمام. إن مقولة العامل المحلي في معادلة التنمية أو التخلف، تنطبق على الدولة العربية أو غيرها على حد سـواء، والأمثلـة على ذلك كثيرة. فهذه اليابان وألمانيا كانتا في يوم من الأيام عدواً للغرب، واليوم هما من أعظم الدول الصناعية تقدماً وأصبح العدو صديقاً. والفضل في ذلك يعود أولاً وأخيراً إلى العامل المحلي. كما أن هناك دولاً أخرى من دول العالم الثالث مثل كوريا الجنوبية والصين والمكسيك والهند وسنغافورة وغيرها كانت تخضع للاستعمار والاستغلال الغربي ولكنها أصلحت أطرها الداخلية فتعدلت موازينها الاستراتيجية مع الغرب وقطعت بذلك مسافة طويلة على طريق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهناك دول لا يزال إسهام عاملها الداخلي في معادلة التنمية ضعيفاً لذا فإن كيانيها الاقتصادي والسياسي مستغلان من قبل الدول الغربية. وهذه الدول كثيرة ومنها معظم الدول العربية. ويبقى ذلك السؤال اللحوح، الباحث عن إجابة، لماذا تقبع الدول العربية في قاع سلم التقدم الحضاري والمادي؟ هل السبب في الإنسان؟ أم التراث؟ أم ذلك الأجنبي؟ لماذا تنطفئ كل شمعة تحاول نشر بقعة من نور على طريق التطور والانعتاق من ظلام عصور الظلام؟ لماذا ؟ لماذا؟ لماذا؟ سؤال يبحث عن جواب.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها