في بيتنا مريض
وقفة أولى: أحس أمين (55 عاما) بآلام وتخدر (أو تنمل) في يده اليسرى وفي منطقة الظهر، فذهب إلى مركز الإسعاف في أحد المستشفيات الحكومية في مدينة الرياض، وشرح لطبيب الإسعاف المشكلة التي يعانيها. وبسرعة البرق، قام طبيب الإسعاف بكتابة وصفة طبية عبارة عن مسكن آلام. عندها استفسر المريض من طبيب الإسعاف عن طبيعة الآلام وما إذا كانت أعراض وجود مشكلة في القلب، فأجاب طبيب الإسعاف بأنه لا داعي للقلق وأنه لا يوجد أي علاقة وستزول الآلام مع استخدام الدواء المسكن. عاد المريض في اليوم التالي للإسعاف مشتكياً من الأعراض نفسها ومتسائلاً عما إذا كانت هذه أعراض جلطة في القلب، ومرة أخرى يصر طبيب الإسعاف على استمراره في تناول العلاج (مسكن الآلام) وألا يقلق. وفي اليوم الثالث، عاد المريض للإسعاف مشتكياً من استمرار وتزايد الأعراض وعدم فاعلية الدواء الموصوف له. وللمرة الثالثة أيضاً يطمئن طبيب الإسعاف المريض بأنها حالة إرهاق وآلام في العضلات. وأثناء الحديث بين طبيب الإسعاف والمريض، يسقط المريض أمام الجميع مصاباً بجلطة في القلب.
وقفة أخرى: أصيب طفل عمره ثماني سنوات بحروق من الدرجتين الثالثة والرابعة نتيجة إصابة كهربائية في إحدى الاستراحات، غطت أكثر من (35 في المائة) من الجسم، وفي مناطق حيوية وحساسة، وتم إحضاره على وجه السرعة (وبسيارة أبيه الخاصة) إلى أحد المستشفيات، الصغيرة والمحدودة الإمكانات وغير المتخصصة في علاج الحروق، في إحدى مناطق المملكة (على بعد أكثر من 100 كيلو متر). بعد استقبال الحالة في الإسعاف، قام طبيب عام بمتابعة وعلاج الحالة على مدى أكثر من أسبوع. وفي أثناء ذلك، وأثناء حديث والد الطفل مع أحد أصدقائه عن حالة الطفل، أشار الصديق (مستغرباً) إلى ضرورة نقل الطفل إلى مستشفى متخصص ومؤهل لعلاج مثل هذه الحالة، وتساءل والد الطفل عن سكوت وعدم تعامل إدارة المستشفى مع حالة الطفل الحرجة بالشكل المناسب والمطلوب. وعلى مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، قام والد الطفل وبجهود شخصية وعائلية ومن خلال الأصدقاء والمعارف بمحاولة نقل ابنه إلى المستشفى المتخصص الوحيد في علاج حالات الحريق بنسب أعلى من 25 في المائة في مدينة الرياض دون جدوى.
وقفة ثالثة: طفلة عمرها ثمانية أشهر تبتلع قطعة معدنية، تم إحضارها من قبل والديها للإسعاف إلى أحد المستشفيات في المملكة، وتم شرح تاريخ الحالة وظروفها لطبيب الإسعاف، الذي قام بفحص سريري، وأشار إلى عدم وجود أي مؤشرات حيوية على وجود مادة غريبة في الحلق أو منطقة قريبة منه وأشار على عائلة المريض بالذهاب إلى البيت والاطمئنان وعدم القلق، رغم ما يظهر على الطفل من صعوبة في التنفس. وبغريزة الأم وخوفها على طفلها ولقناعتها بما رأته، رفضت الخروج وأصرت على دخول الطفل المستشفى ووضعه تحت الرعاية، ومع إصرار العائلة ومن خلال علاقات شخصية تم إدخال الطفل المستشفى وتمت متابعة الحالة من قبل استشاري جراحة أطفال.
وقفة رابعة: طفل عمره سنتان، تم إحضاره للإسعاف لوجود حرارة عالية جداً مع وجود صعوبة في التنفس. بعد فحصه من قبل طبيب الإسعاف، تم إعطاء وصفة طبية لتناول نوعين من الدواء المخفض للحرارة. في اليوم التالي، تعود العائلة مع طفلها بشكوى وجود صعوبة في التنفس لدى الطفل مع عدم توقف الحرارة وصعوبة تخفيضها، فطمأن طبيب الإسعاف العائلة على طفلهم وطلب أن ينتظروا للحصول على نتائج لمدة خمسة أيام. وبعد سبعة أيام من اليوم الأول لإحضار الطفل إلى المستشفى، قامت العائلة بالعودة للإسعاف، ومرة أخرى يطمئن طبيب الإسعاف العائلة على طفلها وأن ينتظروا لأيام قليلة مقبلة حتى يزول الفيروس. وفي أثناء ذلك، طلبت العائلة عمل أشعة لصدر الطفل، وأمام دهشة وصدمة منسوبي الإسعاف، أوضحت الأشعة وجود التهاب حاد في إحدى الرئتين (أكثر من 75 في المائة من الرئة)، وتم تنويم الطفل بشكل عاجل.
وقفة خامسة: شاب سعودي أحضر زوجته (حامل في الشهر السابع) إلى المستشفى لحدوث آلام حادة ونزيف، وبمجرد دخوله لمنطقة الإسعاف، تهرع مجموعة من الممرضات لمعاينة ومتابعة الحالة، وتم استدعاء عدد من الاستشاريين المتخصصين. وبشكل عاجل، ودون سؤاله عن التأمين الصحي، تم إدخالها لغرفة العمليات لإجراء عملية ولادة قيصرية. وقبل إجراء العملية، قام رئيس فريق الاستشاريين بشرح ما سيقومون به للشاب وزوجته وما يمكن أن يحصل من تعقيدات ومضاعفات، وطلب موافقتهم على إجراء العملية. وقد تمت العملية بنجاح، وتم وضع المولود تحت رعاية خاصة لعدة أيام. وبعد عودة العائلة إلى بيتها مع طفلها، تلقت اتصالا من إدارة المستشفى تبلغهم فيها بتخصيص ممرضة لرعاية طفلهم في البيت لمدة أربع ساعات في اليوم، حتى يتسنى للأب والأم أخذ الراحة والخروج لقضاء حاجاتهم الخاصة والتنزه. ذهل الشاب السعودي وزوجته، فلم يسبق لهم مشاهدة هذا المستوى من الخدمة الصحية العالية الجودة، كما لم يصدقوا بأنه يمكن الحصول على خدمات صحية بمثل هذه السنوات. بقي أن نقول إن هذا المستشفى يقع في إحدى المدن البريطانية، وإن الشاب وزوجته من ضمن المبتعثين للدراسة هناك. وعند استعراض الحالات السابقة نرى حجم وغرابة التباين بين الحالات الأولى (1 إلى 4) والحالة الخامسة، أو وضع وطريقة الخدمات الصحية بين المملكة والدول المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا، على الرغم من إنفاق الدولة السخي ـ أعزها الله ـ على القطاع الصحي على مدى الـ 50 عاما السابقة، مع تقديم قروض ميسرة للقطاع الخاص للاستثمار في الخدمات الصحية.
هذه الحالات تمثل حوادث حقيقية حصلت وتحصل كل يوم في كل منزل وفي كل عائلة، نسأل الله السلامة للجميع. فعلى مدى عشرات السنين، فقد المواطن الثقة بالخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية والخاصة. وأصبح المواطن إذا احتاج إلى خدمة صحية، يبحث عن طبيب معين ويسأل أكثر من طبيب ويدفع مبالغ كبيرة للحصول على خدمة مقبولة نوعاً ما. وبين مواطن ومواطن، تختلف القدرات المالية والعلاقات والواسطات. وتبقى عائلات بأطفالها وشبابها وشيوخها وبالملايين تحت رحمة مراكز الإسعاف والمستشفيات وساعات الانتظار الطويلة، وغالباً تكون النتيجة عدم الحصول على العلاج والعناية المناسبة.
في التخطيط الاستراتيجي، من المهم أن نركز على جوانب الوقاية في الدرجة الأولى، نظراً لتأثيرها في المراحل اللاحقة. وفي الخدمات الصحية، تلعب الوقاية دوراً كبيراً في حجم وطريقة تقديم الخدمات الصحية. فعلى سبيل المثال ترسيخ وتثقيف المجتمع على اتباع عادات صحية وغذائية ورياضية جيدة يقلل من حجم وأعداد الحالات المرضية المتقدمة. ومن ناحية أخرى، تمثل مراكز الإسعاف خط الدفاع الأول في العلاج الصحي، من حيث اكتشاف ومعالجة الحالات المرضية قبل تعقدها وتقدمها في المرض. وكما توضح الحالات السابقة (1 إلى 4)، والحالات التي تحدث كل يوم في مراكز الإسعاف المتوزعة في مدن ومناطق المملكة، فهناك ضعف شديد في مستوى وأداء مراكز الإسعاف. وبنظرة متأنية، نجد أن أغلب أطباء وطبيبات الإسعاف هم أطباء عموم أو أطباء أطفال بمستوى وتأهيل طبي منخفض. وطالما أن مراكز الإسعاف بهذا المستوى، فسيزيد حجم الخسائر في الأرواح والأموال نتيجة عدم التشخيص الصحيح وعدم تقديم العلاج في وقته وعدم استقبال الحالات المرضية... إلخ. وكما أن الطبيب الناجح يبدأ بإجراء تشخيص لحالة أي مريض قبل المعالجة، فإننا يجب أن نعمل أولا وثانياً وثالثاً على إجراء تشخيص عملي ومستقل لوضع الخدمات الصحية في المملكة في جميع الجوانب.
وللحديث بقية.