جوزف حرب.. أكثر من ألف صفحة شعر بالفصحى والمحكية
مرة أخرى ينزل الشاعر اللبناني جوزف حرب إلى السوق الأدبية العربية مجموعتين ضخمتين من الشعر الفصيح ومن ذاك المكتوب بالمحكية اللبنانية. في الصفحات التي زادت على ألف صفحة بدا جوزف حرب في فصيحه ومحكيه شبيها بتراثه الشعري السابق. إلا أن بعض ما يلفت النظر هو أن الشاعر الذي اتسم شعره إجمالا بذهنية ومنطقية وبلاغية لم تكن تخلو من الدفء في السابق بدا الآن في قصائده مع مر الأيام والسنين أكثر دفئا وحرارة وامتلاء بالمفجع والمحزن مع محافظة جلية على السمات السابقة عنده.
انه العمر الذي وان دفع بعض الشعراء إلى ذهنية هادئة ومنطقية نادرة الحرارة يفعل وان بشكل نسبي عكس ذلك عند جوزف حرب ويجعله قادرا على أن يجعل مشاعر حزينة موجعة في دفئها تسري في عدد كبير من قصائده. المجموعة الضخمة الأولى المكتوبة بالفصحى بعنوان "أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها" جاءت في 511 صفحة متوسطة القطع. أما الثانية التي كتبت بالمحكية اللبنانية فعنوانها "زرتك قصب فلّيت ناي" فقد جاءت في 519 صفحة مماثلة. وقد صدر الكتابان عن دار رياض الريس للكتب والنشر.
في القسم الأول الفصيح والذي أعطاه الشاعر عنوانا فرعيا هو " عربتي خضراء حصانها ازرق" نبدأ بقصيدة عنوانها "ندم". هي قصيدة فكرية وجودية بالمعنى العام. أنها تتبع نمطا منطقيا تسلسليا لتقول ما فيها من افكار عن بؤس الإنسان ومسيرته عبر التاريخ. يقول الشاعر "عندما قلنا لموتانا " "انهضوا" انا كشفنا سر" هذا الموت في الأرض أخيرا"نهضوا. لم يجدوا الأبيض فينا" لم نكن أجنحة او دويات " لم نكن ماء ايادينا ولا كنا طحينا او" بنفسج" لم نكن إلا مجاعات وصلبانا ونيرا" ونهارا بدم الصبح تضرج" "دوران الأرض ما زال طوافا حول شمس" الخبز والورد. انا نتلوى ليس خصرا راقصا" بل ألم مر" كبحر يتموج" ليس في الأرض لعيد نايه او لعروس" نقر دملج" هتف الموتى وقد حنوا إلى الأسود فيهم " "يا غياب" ثم لفتهم" عباءات الضباب" دخلو الأضرحة استلقوا على الاكفان فيهم" وتغطوا بالتراب."
ويجمع جوزف حرب في قصائده بين تعدد الأوزان والقوافي -او شعر التفعيلة كما يسميه البعض- وبين سمات من قصيدة النثر. وهو هنا قد يتخلى عن القافية لكنه يحافظ على إيقاع مختلف عن التقليدي ومتنوع في الوقت نفسه. وربما جمع في القصيدة الواحدة بين هذا والاتجاه الأخر فعاد إلى التعدد وزنا وقافية كأنه يريد أن يقول مثل آخرين غيره أن للشاعر كل الحرية في أن يختار أسلوبه وان يعتمد فيه أحيانا مزجا بين خاصة وأخرى.
في قصيدة "امنية" مثلا يبدأ الشاعر بالقول "اتحدر من شجر شرس وصخور غامقة وينابيع كمهر بري. من اين جاء اذن سنونو الحقل واصبح كفي. ومر ندى الاعشاب وصار دموعي. من اين اتت اديرة النساك اليّ. وكان ضباب الوديان بخوري. واصابع زيتون الليل شموعي". ويختم القصيدة قائلا "يا بحارة أجدادي المتحدر منهم" حين يجيء قلوعي" سأعود اليهم معكم وهنالك سوف" احن طويلا" لرجوعي" للارض" سأعزف كالرعيان على ناي" وأغنيها " اجمل ما في الارض" بقائي فيها". في قصيدة "نامي" وفي غور وايحائية مؤثرة يقول الشاعر المسكون بماسي الانسان ومصيره الذي يبدو له حالك السواد وكأنه في سيزيفية تسعى عبثا الى تجميل العالم وازالة قبحه فيرتد عليه هذا القبح الوحشي "يأوي الخراب الى فراشي والمجاعات" النحيلة والجراح وكل ما هو ادمع في الارض أو ألم ومجزرة" امد لها وسائد من مساءات وريش ندى " اغطيها" بسنبلة" وأسهر قربها متأملا كيف" الدموع تنام" هل مرة" شاهدت دمعا نائما.. جرحا تغطى بالجناح" مجاعة اغفت تضم رغيفها" لا" ام تكفي بي" ولا يكفي ملاك" اه" ابكتني دموع الارض. حولني خرابا ذا الخراب" وكل مجزرة تدق بداخلي اجراسها" نامي جميعا في فراشي يا ماسي الارض. "حتى اذا استيقظت صبحا مثلما" يستيقظ الموج المضرج بالدم البحري من احلامه" زبدا هفيفا او غمام" اصبحت ما شاهدته فوق الوسائد" في المنام."
ومن القصائد المكتوبة بالمحكية قصيدة "وقت الل فل". وفل بالمحكية اللبنانية تعني ذهب او غادر المكان. لعل هذه القصيدة واحدة من تلك القصائد التي يطغى فيها الدفء العاطفي الموحي على الذهني والمنطقي الاقرب الى البرودة.
في القصيدة يقول جوزف حرب منطلقا من مسح الجبين بالزيت وفقا لشعائر وممارسات دينية مسيحية "مسحت نقطة زيت" بركي على جبيني" شربت دقيت" باب اوضة نوم امي. فت" بست مخدتا" شميت" ريحة تيابا بالخزاني" قطفت خصلة ياسميني" معلقا بيضا بباب البيت.." وفليت."
في قصيدة "الايام" على جمالها تبرز تلك السمة المميزة اي العمل العقلي المخطط للوصول الى نهاية هي الفكرة المقصودة. انها مسيرة الزامية نحو القول ان "مبارح" اي الامس هو الفردوس الرائع المفقود. يقول الشاعر "ان كانت الايام.. كلا" نبيد" نبيد ومعتق" ودايب" كأنو الليل اسود" لون" كاسو" دهبي وازرق" ما في بها الايام يلي كاسها" بنبيدها طافح" اطيب من مبارح."