نيـــبال تتنفس «أيضاً» فوق السحـــاب

في مقال سابق تمت الإشارة إلى عقد اجتماع وزاري لدولة جزر المالديف تحت مياه المحيط الهندي الدافئة لبحث التأثيرات الناجمة عن التغيرات المناخية واحتمال اختفاء دولة المالديف من الخريطة الدولية من جراء هبوط منسوب المياه المستمر في هذه الجزر المرجانية الضحلة، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي, وبعد أقل من شهر حدثت سابقة أخرى غريبة، إذ عُقد اجتماع وزاري آخر لنيبال, وهي دولة صغيرة المساحة من ذوي الدخل المنخفض تقع بين الصين الدولة التريليونية العملاقة والهند الواعدة اقتصادياً, وكان اجتماعا غير مسبوق تم فوق السحاب في قمة جبل إيفرست، أعلى قمة جبال الكرة الأرضية قاطبة, التي ترتفع أكثر من 8840 مترا فوق سطح البحر، من أجل توجيه أنظار العالم إلى أن هناك كارثة بيئية قادمة لا محالة على نيبال في القريب العاجل بسبب التأثيرات السلبية المتوقعة على كوكب الأرض من ظاهرة الاحتباس الحراري، وما تصاحبها من زيادة في درجة الحرارة والجفاف وذوبان الغطاء الجليدي، سواء في المناطق القطبية الجنوبية أو الشمالية أو في مناطق الجبال الشاهقة Mountain Regions المنتشرة في قارات العالم القديم . وطالب المجلس الوزاري لنيبال المجتمع الدولي العمل على الحد من تداعيات هذه الظاهرة وحماية الأرض وإنقاذ سكانها من التشرد أو الهجرة.
وليس من المصادفة أن يتم هذا الاجتماع - غير العادي ـ قبل أسبوع واحد فقط من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في كوبنهاجن في الدنمارك على مستوى رؤساء الدول تحت اسم قمة كوبنهاجن Copenhagen Summit في الفترة من 7 إلى 18 كانون الأول (ديسمبر) 2009، حيث إن هناك تخوفا مشروعا وشكوكا مبررة من دول العالم الثالث الفقيرة، ومنها بالقطع نيبال والمالديف، تجاه التزام الدول الغنية المتقدمة لتحجيم انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وهي تنظر إليها باعتبارها المسؤولة عن تفاقم تلك الظاهرة.
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن موضوع التغير المناخي المعروض على طاولة اجتماعات قمة كوبنهاجن، بمشاركة غير مسبوقة من ممثلي 193 دولة يصل إلى 15 ألف مشارك، هو موضوع قديم حديث ، له عديد من الجوانب السياسية والاقتصادية والبيئية على مسيرة البشرية في المديين القريب العاجل والبعيد الآني.
كانت البداية مع الثورة الصناعية في أوروبا بعد اختراع المحركات وازدياد الطلب على الفحم أولاً ثم التحول إلى المواد الهيدروكربونية من النفط والغاز الطبيعي مع الاكتشافات التي تمت في بداية القرن الماضي، الأمر الذي أدى إلى زيادة تركيز الغازات الدفيئة تدريجيا ووجود وضع غير متوازن طبيعيا في الغلاف الجوي. وتشير أحدث التقارير الصادرة من المعهد الدولي لأبحاث التنمية الاقتصادية NIDER التابع للأمم المتحدة، إلى أن تركيز تلك الغازات تزيد على 380 جزءا في المليون من ثاني أكسيد الكربون المكافئ Co2 equivalent الذي يشمل, إضافة إلى غاز ثاني أكسيد الكربون, غازات الميثان وأكاسيد النتروز وغيرها، وجميعها من الغازات المسببة لارتفاع درجة الحرارة، وهو ما يعني زيادة 40 في المائة على ما كانت عليه نسبة التركيز مع بداية النهضة الصناعية منذُ نحو قرنين مضت، علماً بأن وتيرة هذه الزيادة لوحظت بشكل واضح خلال العقود الأخيرة وبمعدل يصل إلى 1 في المائة سنوياً، وهذا ما دعا المجتمع الدولي للاستنفار للحد من التداعيات البيئية على كوكب الأرض، وتم في إطار الأمم المتحدة عام 1988 تأسيس فريق دولي معني بمهمة تقويم المعلومات عن التغيرات المناخية تحت اسم الفريق الدولي للتغير المناخي International Panel on Climate Change . ومن الإنجازات التي أعقبت ذلك وضع الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي التي اعتمدت في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية UNCED, الذي عقد في ريودي جانيرو في البرازيل عام 1992 تحت اسم قمة الأرض Earth Summit وأقر في هذا المؤتمر أجندة القرن الـ 21Agenda 21 وتكاملت الصورة بإعلان اتفاقية كيوتو والبروتوكولات الملحقة التي طالبت الدول بتحديد أو خفض نسبة انبعاثات الغازات المسببة للحرارة, التي لاقت ترحيبا وموافقة من أغلبية المجموعات الدولية ـ مثل الاتحاد الأوروبي ومجموع السبع والسبعين ـ مع وجود مجموعة صغيرة مناهضة بزعامة الولايات المتحدة وأستراليا وبعض الدول اللاحقة.
لقد كان مؤتمر كوبنهاجن المنعقد حالياً هو الحلقة الأخيرة في هذه الرحلة الطويلة التي حفلت بعديد من الظواهر المثيرة للجدل والإخفاقات المحبطة للأمل, نذكر منها:
* حضور مكثف من رؤساء الدول والحكومات وزعماء وقادة كبار واقتصاديين وبيئيين وإعلاميين من أكثر من 110 دول يماثلون بل يزيدون على حضور قمة ريو ـ أكثر من 15 ألف مشارك - مع مشاركة غير متوقعة من دول مناهضة لاتفاقية كيوتو، وكانت المفاجأة حضور الرئيس باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة القمة في جلستها الختامة, الذي لاقى نوعاً من الارتياح وأعطى بصيصاً من الأمل للمنظمات المعنية بالبيئة.
* تضمن جدول أعمال القمة بنداً رئيساً يتعلق بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وكان هناك إجماع من الدول كافة على خطورة الوضع الحالي, خاصة أن التقارير البيئية تشير إلى أن ما يتم إنتاجه من الملوثات يتجاوز 30 مليون طن، وأن هذا الرقم ربما يرتفع إلى ما يزيد على 54 مليون طن بحلول عام 2020 مع زيادة في ارتفاع درجة الحرارة، وأن من الضروري خفض النسبة إلى 25 - 40 في المائة حتى يمكن السيطرة على الوضع. وخلال فترة انعقاد القمة تضاربت التصريحات من الدول الصناعية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) من جهة، والدول الناشئة الكبرى (الصين والهند) من جهة أخرى، حيث أبدت الولايات المتحدة, وهي أكبر الدول المسببة للتلوث (30 في المائة من حجم الملوثات) استعدادها لخفض النسبة إلى 17 في المائة عام 2020 مقارنة بعام 2005، فيما صرحت دول الاتحاد الأوروبي أن المستهدف للتخفيض 20 في المائة عام 2020 مقارنة بعام 1990. أما الصين ثاني أكبر الدول المسببة للتلوث (10 في المائة من حجم الملوثات حاليا) فقد تعهدت بتخفيض المعدل 40 - 45 في المائة عام 2020 مقارنة بعام 2005 فيما تعهدت الهند بتخفيض 20 ـ 25 في المائة خلال الفترة. ومع ذلك فقد صدر الإعلان الختامي للقمة دون تحديد أي التزام لخفض الانبعاثات الغازية، بل ترك المجال لكل دولة لتحديد النسبة التي تخفضها, ما يعني التزاما (طوعيا) لا يترتب عليه أي التزامات قانونية.
* تم خلال هذه القمة إثارة موضوع المساعدات التي تقدمها الدول الصناعية للدول النامية لمواجهة تداعيات الظاهرة, وهو ما يعبر عنه بفاتورة تأمين الرفاهية، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة تقديم المساعدات العاجلة للدول المتضررة, وكذلك مراجعة الفاتورة, خاصة أن القيمة المطلوبة تزيد على عشرة تريليونات دولار حتى 2030 . وبرزت مجموعة من التصريحات المتناقضة عن الأرقام المعلنة عن التعويضات إلا أنه يمكن التوصل إلى صيغة توافقية في الجلسة الختامية بإنشاء صندوق مساعدات للدول المتضررة من خلال تقديم 30 مليار دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة, وأن هذه المساعدات تزداد لتصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020.
وفي ظل هذه التناقضات والإحباط الذي أصاب الدول النامية والمتضررة والنشطاء المدافعين عن البيئة أثناء قمة كوبنهاجن وبعد انتهائها ستظل دولة المالديف وباقي الجزر الواقعة في مياه المحيط الهندي المعرضة للغرق تتنفس تحت المياه، ونيبال وجيرانها من الدول الواقعة في جبال إيفرست والتبت في قمة العالم وسط آسيا معرضة لذوبان الجليد تتنفس فوق السحاب، ومجموعة الدول الإفريقية في ليسوتو وما حولها المعرضة للجفاف تتنفس في قيظ الصحراء طالما لم يتم اتخاذ إجراءات فاعلة ووضع آليات ملزمة من الدول المسببة للتلوث للحد من ظاهرة انبعاثات الغازات الدفيئة وما يصاحبها من احترار عالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي