هل حكومة سعد الحريري أول حكومات العهد وآخرها؟
تعد حكومات الوحدة الوطنية في الأنظمة الجمهورية حكومات استثنائية غير عادية، تشكل لغرض تعبئة القدرات الذاتية للدولة لمواجهة خطر محدق من الخارج أو أحيانا من الداخل، كالدفاع عن الوطن من عدوان خارجي قادم أو محتمل، أو مواجهة كارثة داخلية معينة سواء كانت طبيعية أم صحية. أما في الظروف العادية والطبيعية، فالحكومات تشكلها الأكثرية السياسية ذات البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي نالت على أساسه أكثرية التمثيل الشعبي أو النيابي، بينما تلعب الأقلية المعارضة دورا مرشدا لسلوك الأكثرية وضاغطا عليها من خلال التقييم المستمر لأدائها في إطار المؤسسات (المجلس النيابي) ووسائل الإعلام، موفرة بالتالي وجهة النظر الأخرى والسياسات البديلة لمواقف الأكثرية وسياساتها أمام المواطنين الذين عليهم في نهاية المطاف، أن يحاسبوا هذه الأكثرية في الانتخابات النيابية، إما بتجديد الثقة بها أو إخراجها من الحكومة. وبالتالي فإن دور المعارضة الإيجابية هو دور محامي الدفاع عن المصلحة العامة، وعامل تطويري للأداء الحكومي والساهر عليه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة للبنان هو: ما الأخطار المحدقة التي تستدعي التضحية بإيجابيات وجود معارضة في النظام توفر صحة عمل المؤسسات وتصون المصلحة العامة؟ فعلى الصعيد الخارجي ليس هناك من أخطار على قدر من التهديد يبرر ذلك، حيث إنه سبق وتعرض لبنان لأخطار وتهديدات تفوق بكثير ما يهدده حاليا ولم يستدع الأمر قيام حكومة وحدة وطنية. بينما على الصعيد الداخلي فليس هناك، والحمد لله، أية كوارث طبيعية أو صحية تستلزم ذلك. وبالتالي يبقى الخطر الوحيد المنطقي والمحتمل هو تفاقم أزمة النظام وتداعي بنية الصيغة الطائفية التي طالما كانت العامل المهدد لاستقرار هذا البلد ومكبل تطوره الاقتصادي والاجتماعي منذ ما قبل الاستقلال بعقود وحتى يومنا الحاضر. وما أبلغ تعبير عن سوء الوضع الذي وصل إليه، إلا بروز الدويلات المختلفة بمساحاتها الأمنية والعسكرية والخدمية والإقطاعية على حساب الوطن والدولة الواحدة.
وقد جرت محاولات إصلاح عديدة عبر تاريخ لبنان الحديث منذ الاستقلال غايتها الخروج من الصيغة الطائفية والمذهبية نحو الصيغة الديمقراطية التي توحد اللبنانيين وتحصن الوطن وتوفر الاستقرار الأمني والسياسي الذي يعد شرطا ضروريا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والارتقاء بمستوى المعيشة وتوفير فرص العمل المجدية للبنانيين في بلدهم بدل التهجير الاقتصادي الذي يعانونه. يذكر أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، إما بسبب الانقلاب عليها كما حدث في عام 1952، أو تهميشها كما جرى لإصلاحات الرئيس فؤاد شهاب عام 1958، أو تلويثها بسموم الطائفية كما حدث قبيل اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975. وحتى عندما ضمن اتفاق الطائف الدستور أولى الخطوات العملية نحو إلغاء الطائفية السياسية من خلال اعتماده تشكيل هيئة وطنية لوضع السبل الآيلة إلى هذا الهدف، لكن هذا البند الإصلاحي المهم بقي ضحية الانتقائية والاستنساب السائد في تنفيذ أحكام الدستور وتطبيق القوانين. وقد بين السجال الجاري حاليا حول هذا الموضوع ضعف احتمال تنفيذ الإصلاحات الضرورية المطلوبة في المستقبل المنظور.
كل هذا يعني استمرار العوامل التي استدعت قيام حكومة جامعة تتمثل فيها جميع الجهات السياسية إلى أمد غير محدود ما لم تطرأ مستجدات على الصعيد الخارجي أو الداخلي تؤدي إلى تغييرها. إلا أنه، وفي ظل الصيغة الحالية للنظام والظروف القائمة، فضلا عن الوعي السياسي والاجتماعي المؤطر له، فإن البديل المرجح لحكومة وحدة وطنية ليس حكومة أكثرية سياسية بل فراغا في المؤسسات. وهذا بالتالي يجعل من السلطة التنفيذية بمثابة مجسم للسلطة التشريعية وبديلا عنها إلى حد كبير، كما يرفع خطر حجب الثقة النيابية عن الحكومة، إلا إذا جاءت في إطار عملية تبديل للأشخاص والحقائب دون أي تعديل هيكلي فيها. وبأية حال فإن رئاسة الحكومة ستبقى في عهدة دولة الرئيس سعد الحريري، كونه المسلم السني الذي يرأس أكبر كتلة برلمانية.
وقد يكون من الإيجابيات النسبية لما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية، أنها بخلاف بديلها الأسوأ المتمثل في الفراغ الدستوري أو عدم الاستقرار الأمني، أنها قد توفر مرحلة من الاستقرار النسبي تمكن الدولة من العمل على مواجهة الاحتياجات الملحة للمواطنين. مثل إيقاف التدهور في الخدمات العامة وتحسينها، خاصة الكهرباء والمياه، وتطوير التجهيزات الأساسية، فضلا عن الالتفات إلى القضايا الاجتماعية الداهمة. كما قد تتمكن من معالجة بعض الملفات الرئيسة مثل وضع استراتيجية دفاعية وطنية مرضية للجميع، وذلك بعكس ما يتوقعه الكثيرون، وخاصة إن توافرت الظروف الإقليمية المناسبة، ولا سيما أن المقاومة قد أنجزت معظم أهدافها الداخلية، وأصبح العائد سلبيا لأي دفع إضافي على هذا الصعيد.
أما من أبرز تحديات هذه الوزارة بحكم هيكلها: مدى القدرة على إجراء الإصلاحات الجذرية التي يتطلبها تطوير النظام، خاصة الإصلاحات الاقتصادية، وذلك لعدة أسباب أهمها، عدم توافر الرؤية الوطنية الموحدة وغياب الإجماع بين مكوناتها، الذي أصبح توافره ضروريا، لإجراء هذه الإصلاحات. ويتوقع أن يؤدي هذا الوضع إلى اعتماد سياسات الحد الأدنى المشترك التي ترضي الجميع، وهذا ضعيف الكفاءة بطبيعته. كما أن فرص إنجاز الإصلاحات الإدارية والمؤسسية المطلوبة لتحقيق الاستقرار الدائم ولتوفير المناخ الملائم للاستثمار والبيئة الداعمة للأعمال، التي تمكن من تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب لتوفير فرص العمل المنتجة للداخلين إلى سوق العمل، وتخفيض البطالة وتنمية الدخل، فضلا عن تخفيض وطأة الدين العام وإدارته، يتطلب تجاوز نظام المحاصصة والمحسوبية السياسية والطائفية. إلا أن حدوث هذا يتطلب ارتقاء في مستوى الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي لدى المجتمع اللبناني. فالمسائل، كما قال عالم حكيم، لا تحل بمستوى الوعي الذي أوجدها ذاته.