إدارة المشاريع في المملكة: دور نظام المعلومات الجغرافي GIS في تطوير وتنفيذ البنية التحتية
في حالة الاستمرار في المنهجية نفسها من غياب التخطيط الاستراتيجي والإدارة الاحترافية والتنسيق والتكامل والاستمرار في العمل في جزر منعزلة فيما يخص مشاريع البنية التحتية الاستراتيجية ومنها مشاريع الأنظمة المعلوماتية الجغرافية Geographical Information System التي تم ويتم تطويرها فإنه لن يتحقق أي عائد على الاستثمار, وبالتالي فجميع ما يتم صرفه وتوجيهه من مخصصات مالية سنوية تستقطع من ميزانية الدولة لهذه المشاريع يمثل خسائر متراكمة على الدولة والوطن سواءً خسائر مالية أو خسائر معلوماتية. من خلال طرح سابق تطرقنا إلى وجود مشكلات رئيسة في طريقة ومنهجية إدارة مشاريع البنية التحتية في القطاعات الحكومية (العدد 5880 في 16/11/2009 والعدد 5901 في 7/12/2009) تسببت – وما زالت - في خسائر مالية متراكمة, وما حصل في مدينة جدة أخيرا يعد خير برهان على عدم توافر عوامل النجاح المطلوبة في إدارة المشاريع ومنها الإخلاص والأمانة والمهنية والاحترافية في إدارة هذه المشاريع. ويلاحظ أيضاً من خلال مشاهدة وتقييم مباشر لما يحصل في طريقة ومنهجية إدارة عدد من المشاريع الحكومية عدم توافر المعايير اللازمة لنجاح المشاريع, وخصوصاً غياب الأهداف الاستراتيجية ومن ثم الأهداف طويلة الأجل للمشاريع.
وفي الصيغة القائمة تقريباً لكثير من المشاريع نجد أن المقاول للمشروع بجانب مهمته التنفيذية للمشروع إلا أن مصلحته وصوته هو الأعلى على حساب مصالح وأصوات شركاء المشروع الآخرين, ويزيد من تعميق هذه الإشكالية غياب الإدارة الاحترافية للمشروع.
أما دور إدارات المشاريع في كثير من القطاعات الحكومية فيبدو مختزلا ويظل يتمحور غالباً حول التنسيق بين المقاول والإدارة المالية لرفع المستخلصات المالية, وهذا يأتي دون شك على حساب متابعة صحة نطاق عمل وتعريف المشروع والتخطيط والتنفيذ والمتابعة واختبار وتسلم المشروع في مراحله المختلفة.
كما يجب أن نؤكد على حقيقة مهمة وجوهرية هي أن انتهاء وتسلم مشروع ما لا يعني أبداً نجاح المشروع. فكم من مشاريع تم الانتهاء منها وتسليمها ثم اتضح بعد سنوات فشلها! وبالتالي فإن هناك عوامل وأبعادا متعددة يجب استخدامها لتحديد مدى نجاح أو فشل أي مشروع. وسنتطرق لهذا الجانب في إدارة المشاريع في مقالات مقبلة ـ إن شاء الله.
كما أن ضعف وقصور البعد المعلوماتي الاستراتيجي والتشغيلي لمشاريع البنية التحتية في القطاعات الحكومية يضيف مشكلة أخرى في منهجية وطريقة إدارة المشاريع لدى هذه القطاعات.
فيفترض لتحديد البيانات والخواص المكانية لمشاريع البنية التحتية من طرق ومنازل وشبكات ومحطات وغيرها أن يتم استخدام نظام المعلومات الجغرافي Geographical Information System: GIS. ويمكن للإخوة والأخوات القراء على سبيل المثال الرجوع لخدمة جوجل العنكبوتية والاطلاع على خدماتها الخاصة بالأرض Google Earth لمعرفة جزء بسيط مما يمكن أن يقدمه نظام المعلومات الجغرافي.
فهذا النظام يقوم بعدد من الوظائف وخصوصاً في مجال قطاع إدارة الأعمال والخدمات, فمنها على سبيل المثال تحديد موقع كيبل كهرباء بشكل دقيق من خلال بيانات الطول والعرض والعمق مما يوفر عدداً من المزايا, منها التوفير في تكلفة البحث عند وجود مشكلة انقطاع كيبل أو لأغراض الصيانة أو التطوير والإنشاء أو غيره, وكذلك تقليل مخاطر تحديد الخطأ وبالتالي الحفر الخطأ الذي حتماً يؤدي إلى الانقطاعات في الخدمات وغيرها.
ونحن هنا لن نتحدث عن ماهية ووظائف ومنافع نظام المعلومات الجغرافي ولكننا سنركز بشكل أساسي على مشكلة عدم تطوير نظام المعلومات الجغرافي في المملكة بالشكل المطلوب أو حتى للحد الأدنى. وهناك في رأينا عدد من الأسباب التي تمنع أو تحد من تطور هذا النظام الذي فيما لو تم تبنيه والعمل به بالشكل الصحيح لوفر خدمات كبيرة لجميع قطاعات الدولة، وكذلك القطاع الخاص من حيث توفير خدمات معلوماتية واستراتيجية، وأيضاً الحد أو التقليل من الخسائر المالية التي تتكبدها الدولة والقطاع الخاص نظير عدم وجود مصدر موحد ووقتي وموثوق لنظم المعلومات الجغرافية.
ويمكن أيضاً إرجاع أسباب عدم وجود نظام معلوماتي جغرافي موحد في المملكة إلى غياب التنسيق العلمي والعملي بين الأجهزة والقطاعات الحكومية، حيث نشاهد أن القطاعات الحكومية اعتادت العمل إلى حد كبير باستقلالية وبشكل منعزل عن بعضها بعضا في جميع مشاريع البنية التحتية, ولا يخفى ما في ذلك من هدر غير مبرر للموارد والطاقات وتقليل لفرص نجاح المشاريع.
ويقوم الآن عدد من الجهات الحكومية والخاصة على تطوير نظام المعلومات الجغرافي ولكن بشكل مستقل والتنسيق غائب فيما بينها, ومن هذه القطاعات على سبيل المثال لا الحصر: وزارة الشؤون البلدية والقروية والهيئات العليا لتطوير المدن وأمانات المدن والبلديات ومؤسسة البريد وشركات الاتصالات وعدد من الوزارات والشركات والمكاتب الخاصة. والكل هنا يبرر غياب المرجعية الموحدة والتنسيق فيما بينها إلى عدم وجود جهة مركزية ورسمية لنظام المعلومات الجغرافي ولذلك في ظل غياب هذه الجهة المنظمة، فالكل له الحق في العمل على تطوير نظام معلومات جغرافي خاص به, وبالتالي فكل جهة أياً كانت حكومية أو خاصة ترى أنها مسؤولة ومالكة لنظام المعلومات الجغرافي في المملكة. والغريب أننا نتكلم عن مكان واحد داخل المملكة مثل شارع معين أو منزل معين أو حي معين وفي الشارع هناك أنابيب مياه وكيابل كهرباء واتصالات. ولم يسأل هؤلاء من المالك للشارع والحي والمدينة؟ من الذي يقوم بتخطيط الشارع والحي؟ ومن يقوم بتحديث الشارع والحي والمدينة؟ ومن ومن...؟
وتركز كل الجهات الحكومية والخاصة عادة عند تطويرها أنظمتها المعلوماتية الجغرافية على إضافة بيانات خدماتها التشغيلية الخاصة بها في نظام المعلومات الجغرافي مستعينة بخريطة المدينة الأساس التي يتم الحصول عليها من مصادر مختلفة. فلو أخذنا مثلاً شركة الكهرباء فإن نظام المعلومات الجغرافي لديها الخاص بمدينة مثل الرياض مقتصر فقط على البيانات الجغرافية الخاصة بمواقع وبيانات الكيابل والمحطات الكهربائية وعدادات الكهرباء المركبة على خريطة الأساس لمدينة الرياض. وهذا الأمر يصح على الجهات الأخرى مثل: الأمانات، البلديات، الاتصالات، المياه، التعليم، البريد، و”أرامكو”، وغيرها. وفي كل هذه التطبيقات تصبح عملية إدارة نظام المعلومات الجغرافي مهمة صعبة وحتماً غير مكتملة وخصوصاً من حيث إمكانية التحديث والربط مع الجهات ذات العلاقة.
فعلى سبيل المثال عملية الربط مع الجهات الأخرى غائبة ولا توجد هذه الإمكانية لسبب بسيط هو أن كل جهة تعمل بمعزل عن الجهات الأخرى وبالتالي لا يمكن الربط.. بل لا نستغرب أن هناك أكثر من نظام معلوماتي جغرافي داخل جهة واحدة نظراً لانعزالية عمل إدارة عن أخرى أو منطقة عن أخرى. وهذا ليس لعدم وجود حاجة وظيفية للربط بين الجهات ذات العلاقة ولكن لعدم إمكانية الربط فنياً ولعدم وجود آلية ومرجعية للربط والتكامل. فعندما تعمل شركة الكهرباء على صيانة شارع معين ألا يهمها تحديد جميع الخدمات الموجودة في الشارع ومنها المياه والاتصالات وغيرها من حيث الموقع الجغرافي (الطول والعرض والعمق) والبيانات الأساسية لكل خدمة؟ ألا نسمع دائماً بتوقف عدد من الخدمات مثل الاتصالات بسبب قطع كيبل بالخطأ أثناء عمل صيانة في شارع ما, ناهيك عن الخسائر المالية والزمنية لإصلاح ما يتم قطعه أو تخريبه نتيجة عدم توافر ودقة البيانات الجغرافية.
ومن ناحية التحديث لنظام المعلومات الجغرافي تواجه كل الجهات الحكومية والخاصة في المملكة مشكلة فنية وتشغيلية. فطالما أن نظام المعلومات الجغرافي ليس جزءا من إجراءات عمل الصيانة وليس جزءا من ثقافة العمل في إدارة المشاريع وليس مصدرا معلوماتيا يعتمد عليه من قبل الإدارة العليا فلا يمكن الاعتماد على النظام وهذا راجع لعدم دقة البيانات المخزنة فيه. فمثلاً إذا تمت صيانة في حي ما وتم وضع محطة تقوية كهربائية في الحي ولكن لم يتم تحديث نظام المعلومات الجغرافي بما تم عمله في هذا الحي واستمر الحال على ذلك لجميع العمليات اليومية من صيانة ومشاريع، فالنتيجة الحتمية أن المعلومات الموجودة في النظام غير صحيحة ولا يمكن بناء قرارات عليها وإن تم فإنها قرارات مضللة وخاطئة. كما أن هناك مشكلة أخرى في إدارة نظام المعلومات الجغرافي في الوضع الحالي من قبل الجهات الحكومية والخاصة من حيث عدم قدرة أي جهة على التحديث الفوري لخريطة الأساس التي يتم الحصول عليها من جهات مختلفة, وهذا ناتج مرة أخرى عن عدم وجود آلية للترابط والتنسيق والتكامل بين الجهات ذات العلاقة بنظام المعلومات الجغرافي.
من ناحية أخرى، تقوم كل جهة حكومية وخاصة ذات العلاقة بنظام المعلومات الجغرافي بالتعامل مع شركات متخصصة في مجال بناء وتدقيق بيانات نظام المعلومات الجغرافي. وما يحصل أن هناك عددا من البيانات المشتركة والجاهزة لدى الشركات التجارية تقوم ببيعها مرة بعد مرة وبالملايين إلى عدد من الجهات الحكومية دون بذل أي مجهود إضافي من قبل هذه الشركات – على الرغم من أن هذه البيانات الجغرافية هي في الأصل ملك للدولة. وفي ظل استمرار الوضع على ما هو عليه فإن المستفيد الوحيد هو شركات أنظمة المعلومات الجغرافية, والمتضرر ـ وما زال ـ هو الجهات الحكومية والخاصة التي يتطلب عملها التعامل مع نظام المعلومات الجغرافي, وهذا الضرر كمحصلة نهائية ينتقل إلى المواطن بعدة أشكال مثل تأخر أعمال الصيانة والانقطاعات وغيرها. مع تكبيد خزانة الدولة مصاريف وأعباء مالية غير مبررة.
وللعلم فإن هناك لجنة مشكلة لنظم المعلومات الجغرافية في المملكة يدخل في عضويتها عدد من الجهات الحكومية والخاصة وهي تعمل منذ تأسيسها منذ خمس سنوات على مناقشة وضع نظام المعلومات الجغرافي في المملكة ووضع الحلول المناسبة. ونعتقد أن وجود اللجنة واستمرارها لأكثر من خمس سنوات دليل عملي على إشكاليات تواجهها اللجنة تحد من قدرتها على التعامل مع المشكلات التي يواجهها نظام المعلومات الجغرافي. كما أن تشكيل لجنة قد لا يكون الخيار الأمثل للتعامل مع مشكلة نظام المعلومات الجغرافي في المملكة. وفي رأينا أن الحل يكمن في أنه يجب أولاً تحليل المشكلة التي يواجهها نظام المعلومات الجغرافي بالشكل الصحيح ومن ثم تقبل المشكلة والاعتراف بها. يلي ذلك وضع تعريف وتشريع دقيق لنظام المعلومات الجغرافي، حيث يشمل تحديد المالك والمسؤول عن نظام المعلومات الجغرافي وهو ما نفتقده في الوقت الحالي.
ويجب أن نشير في الختام إلى أنه في حالة الاستمرار في المنهجية نفسها من غياب التخطيط الاستراتيجي والإدارة الاحترافية والتنسيق والتكامل واستمرار العمل في جزر منعزلة فيما يخص مشاريع البنية التحتية الاستراتيجية ومنها مشاريع الأنظمة المعلوماتية الجغرافية Geographical Information System التي تم ويتم تطويرها فإنه لن يتحقق أي عائد على الاستثمار, وبالتالي فجميع ما يتم صرفه وتوجيهه من مخصصات مالية سنوية تستقطع من ميزانية الدولة لهذه المشاريع يمثل خسائر متراكمة على الدولة والوطن سواءً خسائر مالية أو خسائر معلوماتية.
وللحديث بقية...