بين جدة.. والجامعة.. وكاترينا.. قصة الإيجابية مرة أخرى «1»

اتصل بي أحد الأصدقاء الأعزاء ليلة العيد من مطار الرياض متوترا يقول: «بلا تفاؤل بلا هم ! أنت تكتب تقول كونوا متفائلين وخذوا الحياة بإيجابية والوضع مؤسف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يا أخي ما معني أن تغرق مدينة بأكملها يفترض أن تكون «عروس البحر الأحمر» ؟ ما معنى أن يتعطل كل النظام الإلكتروني لناقلنا الوطني (الخطوط السعودية) ويشل شللا كاملا بسبب دخول مياه الأمطار إلى مكان الأجهزة المركزية وانقطاع التيار الكهربائي! ما معنى عدم وجود تغطية آلية للمعلومات في مكان آخر! بالله عليك أين يحدث هذا ! نحن في المطار منذ البارحة والوضع سيئ جدا والناس في هرج ومرج....بالله بلا إيجابية بلا هم !».
قلت له وأنا أتألم: ما البديل عن الإيجابية؟ لنترك أي فلسفة وأي سفسطة كلام ولنكن واقعيين وعمليين إلى العظم، ما البديل؟
هناك في نظري بدائل ثلاثة لا رابع لها.
البديل الأول أن ننسى الكارثة وندفن رؤوسنا في التراب ولا نكترث لشيء، نقول مثلا: كان ماذا، كل العالم تحصل فيه كوارث طبيعية ، ونحن أفضل من غيرنا بكثير، وانظر فقط إلى الجوانب المشرقة ولا تنظر إلى الجوانب المظلمة، ولا تضخم المشكلة، والناس تموت كل يوم بأسباب كثيرة ...ولربما صور بعض الناس أن هذه هي الإيجابية التي نريد، ويبدو لي أن هذا الموقف أقرب إلى البلاهة منه إلى الإيجابية ! الإيجابية لا تعني أبدا أن تنسى واقعك أو تهرب منه، الإيجابية لا تعني مطلقا أن تتعامل مع المشكلات بسذاجة وأن تبسطها بشكل غير معقول، ولا تعني أن تتبلد الأحاسيس فلا تنفعل بما حدث أو تحزن له أو تشعر بشيء من الإحباط والألم. كل ذلك طبيعي ويعتبر تفاعلا صحيا طبيعيا لما يعترضك من مشكلات ومصائب.
بعد هذا التفاعل النفسي الطبيعي، وبعد دراسة واقعية للمشكلة، ينقسم الناس إلى صنفين اثنين يمثلان البديلين الثاني والثالث أمامنا.
البديل الثاني أن نترك هذه الأفكار والمشاعر تستهلكنا وندور في دوامة لا نهاية لها من الشكوى والتذمر، ونوزع الاتهامات، ونشير بالسبابات، إلى أن يملأ قلوبنا اليأس ونفقد الأمل! فإذا بنا نتحول إلى كائنات مدمنة للشكوى، اسودت الدنيا في وجهها، فتسرب إليها الشلل الذي لم يعد محصورا في الهم العام بل تسرب خلسة إلى الواجبات الشخصية وفروض العين على الشخص. فلم يعد الشخص مع مرور الوقت سلبيا فقط في الهم العام وعمل شيء إيجابي تجاهه، بل انسل ذلك أيضا إلى همومه الخاصة وواجباته اليومية، فلم يعد يهتم بعمله المكلف به بحجة (خربانة خربانة) ، ولم يعد يعطي الناس حقوقهم بحجة (نحن نعيش في غابة)، ولم يعد يربي أولاده بشكل جيد ويقول (أربيهم على إيه)، وبالتالي انتشر سرطان السلبية لديه من أمور هي في الحقيقة خارجة عن نطاق سيطرته (وغالبا لن يحاسبه أحد عليها) إلى أمور هي من صميم مسؤولياته التي سيحاسبه الله أولا والمجتمع ثانيا عليها لأنها من صميم مسؤولياته، والتي هي في الحقيقة لا علاقة لها بفيضانات جدة ولا بتعطل أجهزة الخطوط السعودية! وبالتالي أدى بنا هذا البديل إلى ألا نواجه الكارثة التي حلت بنا ولا نتقدم خطوة واحدة بخصوصها، وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل أدت سلبيتنا إلى قصورنا في إنجاز أمور أخرى ليس لها علاقة بالمشكلة الأساسية ودخلنا في دوامة قاتلة من الفشل وقلة الفاعلية والإحباط المتوالي.
وأما البديل الثالث فهو أن تسأل نفسك بعدما تنقشع عنك غيمة الكآبة والحزن، وبعدما تجاهد نفسك لتطرد عنها الأفكار السلبية، ما الشيء الذي أستطيع أن أقدمه أنا لمواجهة هذه المشكلة، مؤمنا بأن لكل مشكلة حلا وأن الوقوف بعد السقوط ممكن دائما.
في المقال القادم سنتحدث عن نموذجين اثنين واقعيين للتعامل مع المصائب والمشكلات أدت إلى نتائج إيجابية واضحة وظاهرة، وحتى ذلك الحين أترككم مع أحد تأملات إريك هوفر إذ يقول : «إن ما حدث لنا في الماضي وما سيحدث لنا في المستقبل ليس مهما أبدا بالمقارنة بما يحدث بداخلنا من الاستفادة مما مضى والتطلع لغد أفضل دائما».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي