سلطة القانون هي الأعلى في كارثة جدة

الكارثة الإنسانية - لا البيئية - التي عصفت بجدة في الفترة الماضية المتمثلة في سيول عجزت شرايين جدة عن تصريفها وراح تبعا لذلك أكثر من 100 آدمي وتداعيات ذلك على المشهد السعودي يجب أن تكون لحظة حاسمة في غسيل كل الأدران والأوساخ التي علقت بمدينة جدة. إنها فرصة تاريخية - كلي أمل ألا تتكرر- في إصلاح كل الانحرافات التي مرت بمشهد وسمعة المشاريع الحكومية لتصحيح اختلالاتها وإعادتها إلى المسار الصحيح، وهو أمر لا يمكن أن يحدث إذا لم يكن القانون فوق الجميع بكل شفافية.
إنه الفساد أو إساءة استعمال السلطة أو سمه ما شئت، المهم أن وفاة أكثر من 100 إنسان لم يكن أمرا سويا أو صاعقة رعدية تقتل راعيا وخمسا من أغنامه؛ بل هو أمر ما كان يجب أن يحدث. بناء في مجاري السيول أو عدم قدرة على تصريف السيول أو سوء تخطيط أو خلل كان، هو أمر لا يوجد فيه عذر. بل أمر كان بالإمكان تلافيه لو لم يكن هناك خلل في مكان أو أمكنة متفرقة. يجب ألا يعذر أي كائن من كان إلا بما يثبت حقيقة أنه كتب أو اعترض أو ثبت في سجله ما يثبت أنه حاول إبراء ذمته. الصمت لا يكفي. فأول خطوة هي حصر كل من تتقاطع خطوط عمله مع الكارثة التي حدثت، وزارة مياه، وزارة مالية، وزارة نقل، وزارة شؤون قروية، بلدية، أمانة، شركات منفذة للمشاريع المعنية، مهندسين مشرفين، ممثلين ماليين...إلخ. يجب حصر كل هؤلاء وتحديد مسؤوليات كل جهة بكل دقة ممكنة. ثم يتم بحث مواطن الخلل. هل كان هناك ضعف في الموارد المالية؟ هل اعتمدت مخططات سكنية في أماكن خطرة؟ هل تنفيذ الشركات كان سيئا ومع هذا تسلمت المشاريع منها؟ بعد المحاسبة، يجب أيضا ألا نغفل عن إصلاح مواطن الخلل وفقا لنتائج التحقيق؛ فإن كان هناك سوء تواصل مع وزارة المالية فيجب أن تعاد صيغة التعامل، وإن كان هناك ضعف في الموارد البشرية، تعاد الصيغة مع وزارة الخدمة المدنية...إلخ.
ودون أن يعرف الجميع ماذا يحدث فلا عبرة لأي محاسبة. إذ لا يمكن إضعاف الفساد بدون رفع مستوى الشفافية. فالشفافية تستلزم الإفصاح دون مواربة عن كل الأسماء والمناصب المتورطة. فمن الضروري نبش كل زاوية من زوايا القطاع الحكومي للبحث عن كل من تورط بأية طريقة كانت، لأن الموظف الحكومي عندما يعمل في الحكومة فهو يعمل لأداء الأمانة لا لتضييعها، ومن ثم، ليس في التشهير باسمه أي إخلال بكرامته، إذا كان هو من لم يحترم تلك المسؤولية. وبطبيعة الحال، لا يفترض أن يعوقنا من أعمال الشفافية الخشية من أن يقدح هذا في آليات الاختيار لتلك الوظائف، فعملية الاختيار لم تكن مبنية على فساد ذلك الموظف، بل كانت مؤسسة على معايير مختلفة تماما، وأهم من هذا، فإن عقابه والتشهير بذلك العقاب، يزيد الثقة ويعمق الإيمان في صحة عملية الاختيار، فهي تبرهن أن الفساد غير قابل للتفاوض على الإطلاق في المهام العامة، وأيضا، هي وسيلة لمكافأة المخلص بشكل غير مباشر على أمانته.
سلطة القانون فوق الجميع هو عنوان هذه اللحظة التاريخية، وهو ما سطره الأمر الملكي الكريم الذي نص على الحق في استدعاء كائن من كان والتحقيق مع الجميع دون استثناء. إنها رسالة واضحة تقول لكل وزير ولكل مسؤول ولكل موظف حكومي إنه لا توجد مخابئ ولا توجد حصانة ولا توجد رحمة في المحاسبة على أداء الأمانة؛ لا يوجد مفر، هي الرسالة الواضحة في الأمر الملكي، والذي أيضا يجسد وبوضوح أن الإرادة السياسية الراغبة وبكل عنفوان في قمع الفساد وفي استئصال عروقه النتنة؛ منهج ينبع من المدرسة العمرية التي تستشعر سقوط بهيمة في أطراف العراق فما بالك بتغييب شمس أكثر من 100 إنسان. ويعلن أن محاربة الفساد لن تكون عيبا نخجل منه، بل سيكون دلالة تحضر وتقدم نتباهى بها، مهما كان الأشخاص المتورطون في حبكة أي حيلة قذرة أو مشروع ملوث. وهو أمر طبيعي، فنحن لا ندعي أننا مجتمع ملائكة حتى نعتقد أنه لا يوجد بيننا فسدة، ولهذا فهذا الأمر الملكي يقرر دون مواربة أننا سنسمع قريبا محاكمات لأفراد كانوا يظنون أنهم أعلى من القانون وأن القانون فقط لا يطبق إلا على مهربي المخدرات والقتلة.
إن الشفافية في توجيه الاتهام والمحاكمة أمر مهم بل جوهري وبدونه سيصبح التحقيق كأن لم يكن. فوفاة 100 مواطن لا يكفيها فقط رسائل العزاء ولا التعويضات المالية ــ وإن كانت مهمة ــ ولكن ما يهم اليوم هو ألا يتكرر ما حدث مرة أخرى. فما حدث، حدث، ولكن يهمنا اليوم ألا تعيش جده ــ وغيرها - تحت كابوس مخيف وأن يتسمر أهالي جدة أمام نشرة الأحوال الجوية خوفا من أية سحب ركامية. إنه أمر يعلن أنه لا مكان لحفظ الملفات والتعامل بأريحية مع التجاوزات، بل سيكون الضرب بيد من حديد هو شعار ودستور أية إساءة لاستعمال السلطة. لتكن «جدة غير» هذه المرة بشكل مختلف استثنائي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي