هل أصبحت الرياضة مجلبة للبغضاء والضغينة؟!

كلما طردت هاجس الكتابة عن الرياضة من ذهني, ومنها كرة القدم بالذات, وما وصلت إليه المنافسات فيها من وضع مأساوي يدعو إلى الترحم على الأخلاق والقيم العربية, أعادني حادث ما إليها, يدفعني دفعا إلى قول شيء مما أشعر به, ويشعر به كل مواطن عربي ما زال دم العروبة يسكن عروقه.
ولعل ما حدث أخيرا بين الأشقاء في مصر والجزائر من توتر في العلاقات وحدة في المشاعر, خلال المنافسة التي جرت بينهما لتحديد المتأهل للدخول في منافسات التصفية النهائية لكأس العالم (وليس على الكأس) قد تجاوز الحدود المسموح بها رياضيا وأخلاقيا للتشجيع, ووصل إلى حد القتل والتدمير, وإتلاف الممتلكات ومحاصرة السفارات, وتجاوز حدود البلدين إلى الدول المتقدمة ليزيد من نظرتها اشمئزازا ونفورا لنا كعرب بعامة وليس إلى الشعبين وحدهما! كما تجاوز تأثيره الجماهير إلى المؤسسات الرسمية على أعلى مستوى, ووصل الأمر إلى استدعاء السفراء وكيل الاتهامات وتقديم الشكاوى إلى المنظمات الرياضية الدولية, والتهديد بالانسحاب من عضويتها إن هي لم تنتصر للتظلمات!
بيد أن المتأمل الحصيف لوضع المواطن العربي وما أصابه من قنوط وإحباط, بسبب الوضع السياسي على كل الأصعدة, بحيث سُدّت أمامه طرق التعبير وحرية الرأي وممارسة حقوقه المشروعة.. المتأمل في ذلك, يجد أن ما حدث هو نتاج وضع متأزم لهذا المواطن, لم يترك أمامه سوى ميدان كرة القدم ينفس فيه عن الاحتقان الذي يعانيه, وهو ما يبدو أنه وافق ارتياحا في الأوساط الرسمية لصرف نظر المواطن عن واقعه, ليجد هذا المواطن أنه في ظل الإفلاس في تحقيق أي انتصار سياسي, فإن حكوماته تبحث عن أي انتصار وهمي لإلهائه, حتى لو كان في هذا الانتصار انهزام للقيم والأخلاق, كما أثبتته الأحداث الأخيرة, ولا أدل على ذلك من محاولات تضخيم هذا الانتصار في عين المواطن وتسجيله كحدث مهم في تاريخه, كإعلانه عطلة رسمية للأعمال (كما حدث في الجزائر) تُخلى فيها الشوارع من السيارات وتعبأ بالجماهير لتكون في انتظار جولات موكب المنتصرين! ولا يهم بعد ذلك أن تتعطل مصالح الناس ويتوقف الإنتاج, ما دام هناك إنتاج من نوع آخر يداعب أحاسيس العامة ويلهيها!
يبدو أن مشكلة الأشقاء في مصر والجزائر أنهم لم ينظروا إلى الأمر على أنه تصفيات أكبر ما يحققه المنتصر فيها هو زيارة الطرف الجنوبي للقارة, ومن ثم العودة منها خلو اليدين, ولم يدركوا أن أربعة أخماس الدول خرجت من هذه التصفيات كما دخلت, بما فيها المملكة العربية السعودية, التي كانت قد حافظت على وجودها في التصفيات النهائية لأربع مرات متتالية ثم خرجت ولم يحدث شيء, وأن الأشقاء هناك نظروا إليها كفرصة لتصفية من نوع آخر! فقد كانت النفوس مشحونة نتيجة تراكمات سابقة, تنتظر القليل من التسخين كي تنفجر, وها هي قد انفجرت وأحرقت بنارها ما بقي من قيم أخلاقية وروابط أخوية, وستبقى ذيولها وتداعياتها قائمة, إلى أن تأتي منافسة جديدة لتشعلها.
بقي أن أتكلم عن دور الإعلام, بشتى وسائله, وأعتبره الباعث والمحرك الأساس لما حصل, وإن كان الإعلام في بعض البلدان أداة مسخرة لمن يعتليها, فقد سمى هذا الإعلام المباراة الأخيرة أم المعارك, وكأنه يقر بفضل صدام حسين في استحداث هذا الاسم واستخدامه, فقد شاهدنا التشنج والصراخ في القنوات الإعلامية وكأنها تعلق وتصف معركة حربية حقيقية, وليس مباراة كرة قدم يعتبر المنتصر فيها مهزوما! وقرأنا بعض الصحف وهي تنقل عن مراسليها أن الجماهير اتجهت فور وصولها إلى السودان لشراء الأسلحة البيضاء استعدادا للمعركة! فما الذي سيفعله مشجعو الفريق الآخر عندما يقرأون مثل هذا؟ أليس من حقهم أن يستعدوا هم أيضا؟!
لقد أصبحت رسالة الإعلام الرياضي تتمثل في عبارات متوترة تقرأ أو تسمع فتدخل الآذان لتستقر في الأذهان, ومن ثم تتحول إلى عنفوان, ولا سيما إذا كانت تخاطب رجل الشارع باللغة ذاتها التي يفهمها وتثيره, وهي بهذا أخطر من السلاح الحقيقي الذي قد يصيب وقد يخطئ.
أخيرا: هناك ثلاث مفارقات استدعتها المناسبة في ذهني:
الأولى: عن علاقة ما حدث بمستوى الفساد في البلدين, طائرات خاصة توفر وأموال طائلة تنفق والبلدان فيهما من أوجه الإنفاق ما هو أحق, والغريب أن ثمة تقاربا كبيرا في مستوى الشفافية (مؤشر الفساد) بين البلدين في تقرير منظمة الشفافية الدولية الأخير, حيث يسبقهما أكثر من 100 بلد, فهل للأمر علاقة بما حدث؟ ربما!
الثانية: رأينا الجماهير السودانية ترفع العلم السوداني أثناء المباراة وقبلها وبعدها, وتهتف بحماس شديد, ليس لأحد الفريقين ولكن لزعامتها.. فما العلاقة؟ أم أن الأمر كله يأتي في سياق صرف النظر عن الواقع, أم ترى أن اختيار الأرض السودانية للمباراة الأخيرة يعد نصرا من نوع آخر؟ على كل, هذا يذكرني بذلك الذي كان يشجع أحد الخيول في السباق بحماس شديد ولما سئل: هل الخيل لك؟ أجاب: لا بل اللجام لي!
المفارقة الأخيرة: أن ثمة تشابها في الأسباب بين حرب داحس والغبراء وبين ما حدث أخيرا, هذا سباق وذلك سباق, وأن حربا قد وقعت بين بلدين في أمريكا الجنوبية بسبب مباراة كرة قدم!
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي