المفتش العمومي .. ومدن بلا موارد

قديماً قالت الناس إن المطر يقوم بدور (المفتش العمومي) الذي يكشف مواطن الخلل.. وانتشر هذا الوصف إبان انطلاقة طفرة البناء قبل ثلاثين عاماً، حيث تتكشف العيوب في المنازل والمباني العامة والشوارع، والآن أصبحت تتكشف العيوب على مستوى المدن.. ويكاد الوضع يكون عالمياً، فكلما اجتاحت العواصف والأمطار بقعة في أرض الله وتجلت المشاكل، عندئذٍ تُكتشف ثغرات التنفيذ وقصور الرؤية ومؤشرات الفساد!
في مدننا، وعندما بدأت تخرج المدن البسيطة في إمكاناتها وتكوينها إلى حيث الانتشار والتوسع في الإعمار والبناء، حينئذ كان كبار السن يبدون الحيرة والذهول والشك في مستويات العقول عندما يرون الناس (تتعدى على محارم الله)، وهم بذلك يقصدون الأودية ومجاري الأمطار التي يعرفونها، وحينما لا أحد يسمع لنصائحهم لم يكن أمامهم سوى الاستسلام لأمر الله.. فسوف يعود (المسافر) ويقصدون هنا (السيل)، (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً). قال الشاعر الفلكي راشد الخلاوي:
ووادٍ جرى لابد يجري من الحيا
إن ما جرى عامه جرى عام عايد
***
إن مدننا ستواجه في المستقبل العديد من المشاكل الرئيسية إذا نحن قبلنا الأنظمة والآليات المتبعة، فالمدن تكبر واحتياجات الخدمات تتوسع وتكاليف ومتطلبات التشغيل والصيانة تتعاظم كل سنة، والمدن تكاد تعتمد بشكل رئيسي على الاعتمادات المالية التي تقرر في ميزانية الدولة.. ومستقبلاً لا ندري ماذا سنفعل بميزانية محدودة أمام احتياجات التنمية المستدامة ومتطلبات الرفاه الاجتماعي.
مشاكل البنية الأساسية للمدن سوف تفاجئنا ربما بكوارث ــ لا سمح الله ــ جديدة قادمة.. وهذه المخاطر لن يتم التعامل معها إذا نحن بقينا ندير اقتصاديات مدننا بأفكار وآليات أربعة عقود خلت.. علينا أن نواجه جميعاً، دولة ومجتمعا، حقيقة الأوضاع القادمة ولا نهرب منها، فإذا واجهناها الآن سنوفر الجهد والوقت والمال.. ونوفر ما هو أهم: الأرواح!
إدارة المدن بكفاءة، وتوافر الخدمات بالمستويات التي تؤهل مدننا لمراكز متقدمة في تقديم الرفاه الاجتماعي يتحقق إذا نحن اتجهنا إلى سياسات مالية جديدة تضع (الرسوم) على الخدمات التي تقدمها المدن، بالذات على النشاط التجاري، فإدخال هذه السياسات سوف يجعل المدن قادرة على مواجهة احتياجاتها، والنشاط التجاري، بالذات قطاع التجزئة، عبء مالي كبير على المدن، والمؤسف أن التستر التجاري هو المسيطر على هذا القطاع، وبالتالي الخسارة مركبة ومتعدية على النشاط الاقتصادي وعلى موارد الدولة.
موارد المدن ومدى تلبيتها احتياجات الإنفاق على الخدمات الأساسية قضية أساسية للاقتصاد وتمس الاستقرار الاجتماعي، وهنا نحن أمام (أمرين أحلاهما مر).. إما المضي بإدارة المدن وتقديم الخدمات بالمستويات المتواضعة والجالبة للكوارث والتذمر الاجتماعي، أو الإقرار بضرورة إدخال السياسات الضريبية المتدرجة التي تستهدف النشاط التجاري أولاً.
والدولة بيدها آلية عملية وبالتأكيد ستلقى القبول الاجتماعي، وهي آلية (المجالس البلدية)، فهذه المؤسسات المنتخبة يوكل إليها استحصال الرسوم والإشراف على إنفاقها حسب احتياجات المدن وأولويات التنمية فيها، وهنا سيكون للمدن الموارد المتاحة من الميزانية العامة للدولة (التي يُفترض أن تتناقص بشكل تدريجي)، وأيضا لها ميزانيتها من الموارد التي يتيحه فيها النشاط التجاري والاقتصادي.
هذه قضية مطروحة أمام المجلس الاقتصادي الأعلى.. لعله يناقشها ويعطيها ما تستحق من اهتمام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي