الجودة التي نحتاج .. ثقافة ومنهج تطبيق

إن المتأمل في روائع الآثار المعمارية والصناعية والثقافية حول العالم يجد أن جودة تصميمها وإتقان صنعها هو أحد أهم الأسباب وراء بقائها وإعجاب كل العالم بها، حتى العالم المتقدم تقنياً بما توصل إليه من أدق وأعقد التقنيات يقف أمامها مندهشا مذهولا بها حتى صنف بعضها من عجائب الدنيا السبع، مثل الأهرامات التي يعتقد أنها بنيت منذ ما يزيد على ألفي عام قبل الميلاد على أيدي الفراعنة، وسور الصين الذي يمتد من المحيط الهادئ إلى تخوم آسيا الوسطي، ومدينة البتراء في الأردن وهي امتداد لمدائن صالح في السعودية، وقد تم نحت بيوتها في الجبال بصورة مدهشة، وغيرها من إبداعات الإنسان القديم، أما في العصور القريبة فيقف العالم مندهشا أمام روعة قصور وجوامع وقلاع المسلمين في الأندلس وتاج محل في الهند. كل هذه وغيرها كثير حول العالم شواهد على أن الإبداع ينتج من إتقان العمل عن علم وخبرة واهتمام لا يقتصر على نسب أو حسب أو عرق أو جنسية، بل يمد هذا الإبداع عبر كل الأمم وكل العصور، وتلك هي الجودة التي تهدف للوصول إلى أعلى ما يمكن من درجات الكمال والرضى.تلك أمثلة على تأثير الجودة في فنون العمارة.. وحتماً تأثيرها رائع في كل جوانب الحياة الأخرى، مثل التعليم، والصناعة والخدمات، والسياسة والإدارة، ومن أمثلة تأثيرها في التعليم ما يتجلى في موروثنا الثقافي الذي جمعه وصنفه وحلله وألفه علماء المسلمين الأوائل المبدعين، فظل كثيرٌ منه حتى يومنا هذا يدرس في جامعات الغرب والشرق مثل صحيحي البخاري ومسلم وكتاب سيبويه البصري في علم النحو العربي وكتب جابر بن حيان وابن سينا في الرياضيات والكيمياء والطب.
إن المتأمل في واقعنا العربي إجمالاً.. وما نحن فيه من تخلف تقني وإداري.. تجاري وسياسي ثم يمعن النظر في ثقافة شعوبنا وسلوكها نحو الجودة ورضاها وقناعتها بالحصول على الحد الأدنى من جودة المنتجات والخدمات بما فيها الصحة والتعليم، ثم ثقافتها في العطاء بالحد الأدنى من المطلوب دون الإمعان في إتقان العمل وتحقيق أمانته كما ينبغي، إن المتأمل في ذلك كله يدرك حتماً أهم أسباب تراجعنا في العصر الحديث وتحولنا إلى شعوب مستهلكة مغلوبة على أمرها، وتقدم الدول التي تهتم بالجودة بكل أصناف الحضارة المادية والإدارية. وهنا لا بد من التوضيح أن الاهتمام بالجودة كثقافة ومنهج عمل ينبع من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يحث على إتقان العمل إخلاصا لله رب العالمين في تأدية الأمانة لأهلها على أفضل وجه، وهذا المعنى الذي تستشعره في أخلاق رسول الهدى ـ صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ـ وقد أعجبتني قصة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ عندما كان يتجول ليلاً كعادته للاطمئنان على رعيته فسمع بائعة اللبن وهي تقول لابنتها ضعي الماء على اللبن، فقالت الفتاة يا أماه ألم تعلمي أن أمير المؤمنين قد نهى عن خلط اللبن بالماء؟ فقالت الأم لكن عمر لا يرانا الآن، فردت عليها بالقول يا أماه إن كان عمر لا يرانا فربُ عُمر يرانا.. إلى نهاية القصة المعروفة.لقد اهتمت الدول الصناعية الكبرى منذ أمد بعيد بالجودة بشكل كبير وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا، وقامت إثر ذلك بتطوير منهجيات لإدارة الجودة في مراكز أبحاث مدعومة من حكوماتها ومبنية على تجارب حقيقية للشركات الرائدة فيها، ففي أمريكا مثلاً أسس الكونجرس في عام 1987م معايير جائزة مالكوم بالدريج القومية للجودة‏(1) - Malcolm Baldridge National Quality Award-MBNQA - لتكون أداة لقياس أداء الشركات الأمريكية ورفع روح التنافس بينها في مجال الجودة، وبعد ما يقارب 15 عاما من استخدام هذه المعايير وبعد أن ظهرت نتائجها المتميزة على الشركات التي تطبقها بدأت بعض كبريات الشركات تطوير منهجيات خاصة جديدة ومتكاملة لإدارة الجودة، مثل شركة «جونسن آند جنسون» التي طورت ونفذت برنامج معايير توقيع الجودة - Signature Of Quality-SOQ - المبني على معايير بالدريج في التسعينيات، ثم جمعت بين مزايا SOQ ومعايير وثقافة 6 سيجما - Six Sigma - والتفكير الأمثل - Lean Thinking - ومفاهيم امتياز التصميم - Design Excellence - لتطرح في عام 1999 ما يسمى برنامج امتياز العملية – Process Excellence Program - وقد برزت فوائد تبني الشركة هذه المنهجية خلال نتائجها المالية في عام 2001، حيث يقول رالف لارسن رئيس مجلس إدارة شركة جونسون جنسون في تقرير الشركة عام 2001:
لقد أسهم تنفيذ امتياز العملية في جهودنا الإنتاجية التي ساعدتنا على تخفيض نحو خمسة مليارات دولار أمريكي من نفقات الشركة خلال السنوات الخمس الماضية(2).
تجدر الإشارة هنا إلى السعودية، من منطلق شعورها بأهمية الجودة في كل مراحل التنمية كخيار استراتيجي، أصدرت مرسوماً ملكياً في 27/11/1420هـ لإنشاء جائزة الملك عبد العزيز ــ رحمه الله ــ للجودة التي أعد معاييرها وإجراءاتها وأدلتها نخبة من السعوديين المختصين في هذا المجال(3)، وقد ظهر بعض من ثمرات هذه الجائزة الرائدة حتى الآن في مجال دعم التنافس بين شركات القطاع الخاص فقط، كما دفع عدد من هذه الشركات السعودية الرائدة ذات العوائد والنمو إلى تطوير ورفع مستوى أعمالها بشكل مستمر، متبعة أنجح معايير ومنهجيات إدارة الجودة ضمن ما يسمى استراتيجية التطوير المستمر Continuous Improvement Strategy - - وبالشكل الذي يتواءم مع طبيعة وحجم أعمالها، ومما يبعث على التفاؤل إعلان الرؤية الاستراتيجية للهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة(4)، التي تهدف إلى أن تكون المملكة بمنتجاتها وخدماتها معيارا عالميا للجودة والإتقان بحلول عام 2020، إلا أن هذه الرؤية تتطلب خطة وآلية تطبيق تدفع القطاعين العام والخاص لتبنيها بشكل متدرج ومرن يأخذ بمفهوم الأولويات ومتطلبات المرحلة.
الحقيقة أن كثيرا من القطاعات الحكومية وعلى رأسها قطاعات التعليم والتدريب والصحة والخدمات البلدية ما زالت بعيدة من تحقيق مفاهيم الجودة الشاملة، وإن كان بعض منها بدأ بتعليق الجرس من خلال وضع الجودة على أولويات الخطة الاستراتيجية للقطاع إلا أن ذلك لا يزال حبرا على ورق مع بعض الجهود التي لا ترقى لمستوى التطلعات، ولعل من معوقات ذلك قلة الثقافة العامة لمفاهيم الجودة بين الموظفين وبعض المسؤولين وضعف التدريب عموماً في هذا الجانب، ومع هذا فقد بدأنا أخيرا نتلمس نتائج هذه الجهود البسيطة من خلال شفافية بعض الجهات الرقابية في كشف كثير من المخالفات الخطيرة في قطاعات الصحة والغذاء والدواء مثل التشهير ببعض منتجات حليب الأطفال والحلويات التي تحتوي على الميلامين وبعض منتجات المياه الصحية ذات النسب العالية من تركيز البرومات، وأخيراً الكشف عن 1075 شهادة مزورة و1700 شهادة مشكوك فيها و15202 موظف ممنوع من الممارسة المهنية في القطاعات الصحية! وفقاً للإعلان في موقع الهيئة السعودية للتخصصات الصحية(5).
خلاصة القول هنا, لا بد لنا من تبني الجودة في أمورنا كلها وجعلها من أساسيات الثقافة التي نعلمها لأولادنا لتطبيقها في كل أعمالهم واعتمادها كأساس في اختياراتهم، كما أنه من المهم في كل قطاعات الأعمال في بلادنا العامة والخاصة تبني الجودة كثقافة ومنهج عمل والتدريب الجيد على تطبيقه كاملاً فلا يكفي تطبيق مهام الرقابة والتدقيق للتأكد من مطابقة المعايير والمواصفات - Quality Assurance - وتجاهل تطبيق الشق الآخر من منهجيات إدارة الجودة و هو توجيه الجودة والتحكم بها - Quality Control - من خلال تعريف المشكلات والتجاوزات وقياسها وتحليلها لمعرفة مدى خطورتها ومسبباتها ثم البحث عن الحلول التي تضمن القضاء عليها أو تقليلها إلى أدنى حد ممكن، ومن ثم تطبيق تلك الحلول حتى نرفع مستوى الجودة بشكل مستمر يحقق متطلبات التنمية للوطن والمواطن.

1. المزيد عن الجائزة www.baldrige.nist.gov.
2. من كتاب 6 سيجما للتميز في الأعمال:
P. Przekop (2006), Six Sigma for Business Excellence, New Yourk, McGraw-Hill
3. موقع جائزة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ للجودة على الإنترنت www.kaqa.org.sa.
4. موقع الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة www.saso.org.sa.
5. موقع الهيئة السعودية للتخصصات الصحية
www.scfhs.org.sa

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي