أحوالنا بين القبض والبسط

يلمس المتأمل لكتاب الله - عز وجل - أسلوبا تربويا رائعا في تهذيب النفس الإنسانية، حيث تقترن دائما آيات الشدة والوعيد مع آيات الرخاء والوعد بالمغفرة والعفو، فلا يحدثك عن واسع فضله وعظيم مغفرته إلا ويحدثك قبلها أو بعدها عن بالغ سطوته وشديد عقابه، ولا تجد وعدا ينفك عن وعيد ولا وعيدا ينفك عن وعد، بل هما متجاوران دائما ليتحقق من ذلك هذا المقصد التربوي المهم.
حين يقول تعالى: «نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم « يأتي بعدها مباشرة «وأن عذابي هو العذاب الأليم»، وفي سورة ق يقول سبحانه وتعالى: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» جاء بعدها مباشرة: «وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ».
إنه منهج تربوي دقيق حيث يجذبك إلى شواهد رحمته وأنسه حتى إذا كاد البسط أن يأخذ بمجامع نفسك ويوصلك إلى درجة اليقين والقرار والركون إلى سعة مغفرته شدتك التربية الإلهية من تلك الحال ومضت بك إلى آيات الوعيد والعقاب لتستيقظ النفس من سباتها، فإذا كادت سطوة القبض أن تهيمن على روحك وتقنطها وتزج بك في ظلمات اليأس جاءتك آيات الثواب والجزاء لتعاودك مشاعر الارتياح والانبساط .
إن المطلوب من كل مؤمن يجتهد على إيمانه أن يجمع بين حب الله والخوف منه، فالله سبحانه وتعالى يخاطب عباده المؤمنين بقوله عز وجل: «وخافون إن كنتم مؤمنين»، ويذكرهم كذلك بضرورة محبتهم له، فيقول سبحانه: «والذين آمنوا أشد حبا لله»، لكن الراسخون في العلم أشد خوفا على إيمانهم في حالة البسط التي تمر بهم أكثر من حالة القبض التي تعتريهم، فما السبب في ذلك؟
إن الإنسان إذا استبدت به مشاعر كرم الله و عفوه فالشأن الغالب في هذه الحال أن تستيقظ في النفس أطماعها وأن تتمتع بشهواتها، وللشيطان في هذه الحال صولة وجولة، إذ يوسوس إلى صاحب النفس أن مغفرة الله لا تتجلى فاعليتها إلا بوقوع الآثام والذنوب فعلا ثم تجاوزه ـ عز و جل ـ عنها، فتستغني النفس عن مراقبة الحال وحراسة المحيط والمناخ لكي تركن إلى اقتطاف متعتها دون وجل من الحساب.
وإن استمرت تلك الحال مدة طويلة فربما أورثت صاحبها ثقة بحسن المآل وسعادة العقبى مما قد يدعوه للتكاسل عن النهوض بعزائم الطاعات والانصراف عن كل ما يحمل النفس عنتا ويكلفها جهدا، وهذا كله من نذر الشقاء، وهذا هو السبب في أن الصالحين لا يطمئنون إلى حالة البسط ولا يركنون إليها إذا مرت بهم.
يقول تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» وورد في الآثار أن ما حمل فرعون على قوله: «أنا ربكم الأعلى» طول العافية والغنى فقد لبث 400 سنة لم يتصدع رأسه ولاحم جسمه ولم يضرب عليه عرق، ولو أخذته أوجاع الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي