Author

من أجل التمهيد لـ «التهافت» .. و«تهافت التهافت»

|
- كان مركز الخلاف والنزاع بين المتكلمين، خاصة منهم المعتزلة والأشاعرة، يدور حول عدد من آيات الذكر الحكيم التي يفهم من ظاهرها أنها متعارضة، أو مفتوحة على عدد من التأويلات. وكان المسلمون قبل عصر الفتنة (عصر انقلاب الخلافة إلى ملك) يفهمونها في إطار معهود العرب الحضاري العام، وفي مقدمته «المعهود اللغوي العربي» الذي يتميز بـ «التجوز» في الكلام، أي باستعمال المجاز من تشبيه وتمثيل واستعارة وكناية إلخ، وذلك حسب ما يفهم من السياق الذي به يتحدد المعنى الحقيقي والمجازي. والمهم في الأمر أنه لم تكن في عهد الخلافة الراشدة ثمة خلفيات سياسية أو مرجعيات مذهبية تدفع الناس -أو تجرهم- إلى فهم آي الذكر الحكيم خارج هذا النطاق، أعني نطاق «معهود العرب» الحضاري: المادي والاجتماعي والفكري. غير أن الأمر أخذ يتغير منذ «الثورة على عثمان» حينما بدأ «الدافع السياسي» يتدخل، ليس فقط في فهم آيات الذكر الحكيم، بل أيضا، في الاحتجاج ببعضها، إما كما هي على «الظاهر» أو على تأويل معين. وقد تفاقم هذا النوع من التعامل مع الكتاب المبين فانتقل من مجال «اليومي» و»السياسي» إلى مجال العقيدة، فأصبح الخلاف والنزاع يطول ذات الله وصفاته وأفعاله. فكان هناك من تصور الله تعالى على مثال الإنسان : ذات مستقلة بنفسها، ثم صفات وأفعال، وقد أطلق على هؤلاء اسم «الصفاتية» (مثبتو الصفات مستقلة عن الذات)... وكان هناك من رأى أن هذا التصور يتنافي مع التوحيد، وحدانية الله، لأنه ينتج عنه أن «علم الله» مثلا يجب أن يكون «قديما» قدم ذاته، وكذلك الشأن في أفعاله.. إلخ، الشيء الذي يؤدي إلى القول بتعدد القدماء (أو تعدد الآلهة كما يقول المثنوية بإله للنور وآخر للظلمة، والمسيحيون بالأب والابن والمشركون بألوهية الكواكب والأصنام .. إلخ). ومن هنا قال بعض علماء الإسلام أن المخرج من هذا المشكل هو فهم «التوحيد» ليس فقط بمعنى أن الله واحد لا شريك له، بل أيضا بمعنى أنه لا تعدد في ذاته بمعنى أنه «عالم بذاته لا بعلم زائد على ذاته»، أو «عالم بعلم هو ذاته». وفي الحالتين معا (القول بـ»الذات عين الصفات، أو ب»الصفات زائدة على الذات». يؤكد المتكلمون، معتزلة وأشاعرة وغيرهم، أن الله خلق العالم من لاشيء، مما يعني أن الله هو وحده القديم (الذي لا أول لوجوده ولا آخر)، وأن العالم «محدث»: لوجوده أول، أي خُلق في زمان. وهنا برزت إشكالات فكرية «فلسفية» من مثل التساؤل: ما الذي جعل الله يخلق العالم في لحظة زمنية ما، وليس قبلها ولا بعدها؟ ومن هنا مسألة «المرجح»، بمعنى أن خلق العالم في لحظة معينة، لا قبلها ولا بعدها، يعني أن هناك مرجحا رجح تلك اللحظة على غيرها! وهذا ما يتنافى مع «التوحيد» الذي تقضي أن الله واحد أحد، منزه عن كل نقص، لا يحتاج في فعله إلى دافع أو مرجح أو معين .. إلخ. وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفهم إجماع المتكلمين على أن العالم «محدث»؟ قال المعتزلة والأشعرية وفرق أخرى : إننا نشاهد أن الكرسي، مثلا، محدَث، مصنوع صنعه النجار، وكذلك الشأن في جميع ما هو موجود في العالم، ومن هنا قالوا «كل حادث له محدِث» (كل مصنوع له صانع). وعلى هذا الأساس فإذا برهنا على أن العالم كله «محدَث»، وجب أن يكون له محدِث وهو الله. وللبرهنة على حدوث العالم قالوا بنظرية «الجزء الذي لا يتجزأ» التي تعرفنا عليها من قبل: قالوا العالم أجسام، والأجسام تتألف من جواهر وأعراض : من مادة جوهرية لا ترى وأعراض تتعاقب عليها (لون طعم، ملمس، حركة .. إلخ). وبما أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض (ليس هناك جوهر دون أعراض)، وبما أن الأعراض حادثة، (في تغير دائم: توجد وتفنى) فيجب أن تكون الجواهر كذلك، لأنها لا تنفك عن الأعراض. وإذن: الأعراض حادثة، والجواهر حادثة، والأجسام حادثة لأنها مركبة منها، والعالم حادث لأنه مؤلف من أجسام. وقد رأينا من قبل كيف أن نظرية الجوهر الفرد هذه قد تعرضت لأزمة مع مسألة «الأحوال»، فسقط بنيانها. ومن القضايا التي ناقشها المتكلمون في إطار حدوث العالم مسألة «السببية». وقد طرحت على الشكل التالي: إذا قلنا إن العالم حادث، وأن الأجسام حادثة متغيرة فما مصدر هذا التغير: والمثال المشهور عندهم هو علاقة النار بالقطن : القطن يحترق بإلقائه في النار: فمن أحرقه؟ هل النار أم الله. وبما أن جميع المتكلمين متفقون على مبدأ «لا فاعل إلا الله»، فإنهم يرفضون أن تكون النار هي التي تحرق بـ»الطبع» أي أن من طبعها أنها تحرق. يرفضون فكرة «الطبع» هذه لأنها تقتضي أن النار لا بد أن تحرق بالضرورة القطن أو غيره مما يقبل الاحتراق، بمعنى أنهم يرفضون السببية بمعنى العلاقة الضرورية بين السبب والمسبَّب. لأن القول بمثل هذه العلاقة الضرورية يتعارض مع مبدأ «لا فاعل إلا الله»، كما يتعارض مع ما نص عليه القرآن من أن الله أمر النار بأن لا تحرق النبي إبراهيم عليه السلام، وأن تكون بردا وسلاما عليه فلم يحترق، وكان ذلك معجزة له. ومن هنا قالوا إن القول بالعلاقة الضرورية بين ما يعتبر سببا وما يعتبر مسبَّبا قول يتعارض مع فكرة المعجزة. ولتجاوز هذا الإشكال قالوا: إن ما نعتقده من أن النار تحرق القطن ولا بد أن من طبيعتها أن تفعل ذلك إنما هو عادة تولدت فينا من من كثرة حدوث ذلك أمامنا خلال حياتنا اليومية، وأنه لا شيء يمنع العقل من تصور أن القطن قد لا يحترق عند إلقائه في النار، وبالتالي فـ «خرق العادة» ممكن والمعجزة ممكنة. ومن المسائل التي ناقشها المتكلمون مسألة البعث يوم القيامة وكيف سيكون: هل للأجساد والأرواح، أم للأرواح فقط؟ وهل الخلود لهما معا أم فقط للروح؟ وهل هو خاص بالجنة أم يشمل النار كذلك، وهل هو لأهلهما جميعا أم لبعض دون بعض .. إلخ؟ جميع هذا الأسئلة والإشكالات قد واجهها المعتزلة أولا، في ردودهم على أهل الملل والنحل في أواخر العصر الأموي والعصر العباسي الأول، وكانت أجوبتهم تعتمد على العقل، لأن خصومهم لم يكونوا يؤمنون بالإسلام ولا يسلمون بما يقوله القرآن. أما «أهل السنة» الذين كان شغلهم الأكبر هو الاهتمام بالحديث النبوي (جمعه ونقده .. إلخ) وبناء موضوعات علم الفقه وأصوله فقد تفهم معظمهم أن آراء المعتزلة هي موجهة لتحديات أهل الملل والنحل، ولذلك قالوا بإثبات الصفات كما هو منصوص عليه في القرآن، دون الدخول في مثل تلك التفاصيل. لكن عندما ارتد أبو الحسن الأشعري عن المعتزلة وقد كان واحدا من رجالهم، وأراد أن يدشن مذهبا وسطا يجمع بين مذهب أهل السنة ومنهج المعتزلة –وكان الصراع مع أهل الملل والنحل قد هدأ- تحول «علم الكلام» إلى سجال عقيم بين المعتزلة والأشعرية. وعندما تصدَّر ابن سينا عملية إنشاء علم كلام شيعي اثني عشري يتجاوز المعتزلة والأشاعرة باعتماد منطق أرسطو مع «تطويع» مفاهيمه وتصوراته والخروج بها عن إطارها الأرسطي، جاء الغزالي ليرد عليه في كتابه «تهافت الفلاسفة» سالكا استراتيجية «التشويش والتشغيب» التي شرحناها في المقال السابق، الشيء الذي دفع ابن رشد إلى الرد عليه للكشف عن مغالطاته وانحرافات ابن سينا «الفلسفية». ولم يكتف فيلسوف قرطبة بهذا بل عمد إلى تحليل آراء المتكلمين في «القضايا العقدية» المذكورة أعلاه، كاشفا عن مواضع الشطط والخطأ في تأويلاتهم مقترحا، قواعد جديدة للتأويل، مبينا شروطه وحدوده، وذلك في كتاب سماه : «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وتعريف ما وقع فيها، بحسب التأويل، من الشبه المزيفة والبدع المضلة».
إنشرها