الديون والفائدة والمضاربة (3)
أواصل حواري مع مداخلة أحد القراء الأفاضل الذي راسلني معلقا على قول الأستاذ بيرش - الذي جاء في الجزء الأول من مقالتي الموسومة ''اعترافات مدير صندوق تحوط سابق'' - إن لحياتنا الاقتصادية ثلاثة أعداء هم: الديون والفائدة والمضاربة. وقد أجبت في المقالين السابقين على استفسار القارئ عن مسائل الديون والفائدة والمخاطر. وبقى للقارئ الكريم تساؤل عن المضاربة، حيث يسأل كيف تكون المضاربة عدوا للاقتصاد ولولاها ما كان هناك بورصات لمختلف السلع؟
نعم التحليل النظري للمضاربة Speculation، كما يراه بعض الاقتصاديين، يجد أن للمضاربة دورا إيجابيا في الأسواق. فالمضاربة تساعد على نقل السلع من أماكن وأوقات الوفرة إلى أماكن وأوقات الندرة النسبية أو الشح. ومع أنه ليس للمضاربين غرض حقيقي في استحواذ أو استهلاك هذه السلع التي يضاربون عليها، بل همهم شراؤها بسعر منخفض اليوم ثم إعادة بيعها بسعر أعلى في وقت ما ومكان ما حينما يشح عرضها، إلا أنهم بعملهم المحموم هذا (ويسمى المراجحة Arbitrage) يخففون من فروقات الأسعار بين الأسواق المختلفة وجعلها تعمل بكفاءة أفضل. وذلك عندما يقومون بالاتصال عبر الهاتف أو الإنترنت في وقت واحد مع عدة سماسرة في أسواق متعددة للبحث عن فروقات الأسعار من أجل تحقيق ربح ضئيل في كل مرة يستطيعون فيها الشراء بسعر رخيص ثم البيع بسعر أعلى.
ويضيف المؤيدون للمضاربة وظيفة أخرى للمضاربين وهي تحملهم المجازفة، ومن ثم استيعاب المخاطر التي لا يريد الآخرون تحملها. فهم يشترون السلع من منتجين أو تجار لا يرغبون في تحمل خطر انخفاض السعر عن حد معين. وتفسير تصرفهم هذا لا يخرج عن عدة احتمالات. فهم إما أنهم يعتقدون أن الأسعار سترتفع وسيحققون عوائد غير عادية على استثمارهم، وإما ربما يكونون قد باعوا عقودهم المستقبلية لمشترين في سوق آخر يرغبون ربط سعر السلعة قبل أن يرتفع، أو أنهم اشتروا كمية كبيرة ويرغبون في بيعها بسعر أعلى على عدة مشترين. والفكرة كما يقول المدافعون عن المضاربة هي أن هناك شخصا ما أو جهة ما في مكان ما لديه حافز اقتصادي لتحمل مجازفة تقلب أسعار السلع التي يضاربون عليها. وبهذا تسهم أسواق المضاربة في تحسين السعر، وأنماط التوزيع عبر الزمان والمكان، علاوة على المساعدة في نقل المخاطر وتحويلها. وحيث إن المضاربين يقومون بهذه الوظائف رغبة في تحقيق ربح من خلال الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر أعلى، فهم بذلك يعيدون توزيع عرض السلع من أيام الوفرة (عند انخفاض الأسعار) إلى أيام الشح (عند ارتفاع الأسعار).
بيد أن هذا الوصف النظري ينطوي على افتراض أساسي، وهو أن الأمور ستسير وفقا لما يتوقعه المضاربون، أما لو تغيرت الظروف وفشلت توقعاتهم فإنهم سيمنون بخسائر فادحة سيكون لها انعكاساتها على الأسواق المالية وأسواق السلع تقلبا واضطرابا. ولننظر مثلا لما حدث ابتداء من عام 1982م، حيث بدأت أسعار الأصول المالية بالارتفاع مع ارتفاع أسعار الفائدة فيما توقف ارتفاع أسعار الذهب لمدة 25 سنة تقريبا، ووصلت أسعار النفط لأدنى مستوياتها. وقد أخذت هذه الدورة في التمدد بصورة خطيرة بسبب نمو الديون وعمليات الرفع المالي. وترتب على ذلك أن غدت الأصول المالية تشكل أكبر قطاع في الاقتصاد العالمي، واتجهت أموال هائلة إليه بعيدا عن النشاط الحقيقي، ووجد المضاربون فرصة للاقتراض وشراء عقود المستقبليات بسعر منخفض لإعادة بيعه عندما ترتفع الأسعار. وقد أخذت أسعار النفط فعلا في الارتفاع فيما بعد عندما أصبحت الصين بطلبها المارد الجديد في الأسواق العالمية. لكن هذا الارتفاع في أسعار السلع الأساسية أدى إلى ارتفاع أكثر في الأسعار بسبب كثرة وازدهار تكون صناديق السلع التي غذيت بمزيد من الاقتراض وتبعها زيادة صناديق التحوط الخاصة بهذه السلع. وبحلول عام 2008 م أدت المضاربات إلى دفع أسعار النفط للارتفاع إلى مستويات قياسية غير مسبوقة رغم زيادة العرض في السوق العالمي. كما أدى دخول صناديق العملات الأجنبية إلى صب مزيد من الزيت على نار الأسعار. لقد كان للمضاربة دور واضح في تغذية سرعة ارتفاع الأسعار، الأمر الذي شجع على مزيد من هذه المضاربات. ولم يكن هناك وقت كاف لزيادة الاستثمارات الرأسمالية في المشروعات الحقيقية حيث وصلت الفقاعة لأقصى مداها وأخذت الأسعار في التراجع. وأضحت مشروعات الطاقة طويلة الأجل في أسوأ وضع من ناحية توافر التمويل. واتضح أن نشاط المضاربة كان له تأثير مباشر وواسع في العالم بين المتقدم والنامي على حد سواء. ويؤكد الأستاذ بيرش أننا لو سيطرنا على الأصول والمخاطر ولم نفصل بينهما لما ارتفعت الأسعار، وهذا جوهر ما تدعو إليه النظرية المالية الإسلامية. ويضيف كان زعماء الغرب كجوردن براون رئيس وزراء بريطانيا يضغطون على دول ''أوبك'' من أجل زيادة إنتاج النفط بالرغم من التخمة التي تشهدها الإمدادات قصيرة الأجل، لكنه لم يكن مستعدا لتوجيه اللوم للمضاربين الذين هم على مرمى حجر منه والذين دفعوا بتصرفاتهم أسعار النفط لبلوغ مستوياتها القياسية.
ولهذا وجد الأستاذ بيرش من واقع ممارسته العملية أن النظام المصرفي والمالي الرأسمالي - الذي قام على الفائدة، وعلى المبالغة في توليد الديون وإعادة بيعها، وعلى الانخراط في عقود مشتقات مالية متتابعة دفعت للانغماس في مضاربات ضارة غير مفيدة للنشاط الاقتصادي - هذا النظام وبهذه الكيفية كان سببا في حدوث نتيجتين. الأولى هي أنها قادت لتوزيع سيئ للدخول والثروات، وهو أمر مشاهد وواقع حقيقي تثبته الإحصاءات. والثاني أنها كانت سببا في حلقة مستمرة من تأجيج المضاربات التي دفعت لارتفاع أسعار الأصول ولتقلبات متكررة في حياتنا الاقتصادية فضلا عن دورها في تدمير بيئتنا.