الديون والفائدة والمضاربة (2)
كان أحد القراء الأفاضل قد تداخل معي عبر بريدي الإلكتروني معلقا على قول الأستاذ بيرش - الذى ذكرته في مقالتي الموسومة ''اعترافات مدير صندوق تحوط سابق'' - أن لحياتنا الاقتصادية ثلاثة أعداء: الديون والفائدة والمضاربة. القارئ يرى أن هذه الأدوات كان لها دور إيجابي في حياتنا الاقتصادية, وأن الإقراض لم يكن يوما مجردا من المخاطر، كما يوحي كلام الأستاذ البريطاني بيرش، وإلا ما أفلست بعض البنوك التجارية، وما قامت بتجنيب احتياطيات لمواجهة أخطار الديون المعدومة والمشكوك في تحصيلها.
والحقيقة أن أحدا لم يقل إن الإقراض أو التمويل ليس له مخاطر, بل إن البنوك تواجه مخاطر متعددة وتعمل دائما على إيجاد مقاييس دقيقة لها حتى تتمكن من تسعير أصولها بما يتلاءم مع نوعيتها. ذلك أنها إن قبلت أصولا ذات مخاطر عالية بعائد متدن، فالخسارة هي مصير عملياتها. ومن هذه المخاطر: المخاطر الرأسمالية، ومخاطر نقص السيولة، ومخاطر تغير سعر الفائدة في النظام الربوي، وكذلك مخاطر عدم تسديد القروض في وقتها (المخاطر الائتمانية).
والواقع أن المخاطر تمثل تحديا ليس فقط للتمويل الربوي، بل حتى للتمويل الإسلامي, بيد أن تزايد هذه المخاطر دفع البنوك التقليدية إلى اللجوء لعمليات الابتكار المصرفي والهندسة المالية لإيجاد سبل وطرق لمعالجة المخاطر، منها: الاحتياط Hedging ، تبادل الفوائد Interest rate swap، بيع الديون والتصكيك Securitization ، والمشتقات المالية Derivatives. ومع ذلك، لاحظ المراقبون أن الاضطرابات المالية والتقلبات الاقتصادية لم تنحسر بل كانت في ازدياد, حتى أصبحت المشتقات المالية تثير كثيرا من الإشكالات القانونية والأخلاقية ما جعل الأصوات تتعالى للمطالبة بكبح جماحها والحد من نموها.
علينا تذكر أن التحوط ضد المخاطر هو من مقاصد التشريع الإسلامي في حفظ المال وتنميته, فليس هناك إشكال من حيث المبدأ حول هذا الهدف، بل الإشكال يتعلق بالوسائل والأدوات التي اتبعتها المصرفية التقليدية.. فهل هذه الأدوات حققت الهدف أو أنها أدت بدلا من ذلك إلى زيادة المخاطر وتفاقمها؟ الأستاذ بيرش دلل في كتابه على أنها زادت من المخاطر والتقلبات!
نحن نسلم بأن المخاطر لا تنفك عن النشاط الاقتصادي، ونقر بأنها من جانب تؤدي وظيفة مهمة في توجيه الحوافز ورفع الكفاءة الاقتصادية, لكن استفحالها يهدد استقرار الأسواق ويبدد ثروة المجتمع، والعالم في حاجة إلى نظام ووضع نموذجي بين هذين الطرفين. وإخصائيو المصرفية الإسلامية يرون أن النظام الإسلامي يقدم الإطار المناسب لحل هذا الإشكال, فهو يحرم الربا وربح ما لم يضمن من جهة، كما يحرم الغرر والقمار من جهة أخرى.
يؤكد الدكتور سامي السويلم ـ وهو من القلائل الذين كتبوا في هذا الموضوع باللغة العربية، في كتابه ''التحوط في التمويل الإسلامي'' أن الحد الأدنى من المخاطر اللازم لتوليد الحوافز والكفاءة إنما يتمثل في وجوب تحمل مخاطر الملكية اللازمة لتحقيق الأرباح ونمو الثروة, أما المخاطر الضارة بالنشاط الاقتصادي- المخاطر المستقلة عن الملكية - فتبادلها يُعدّ من الغرر والميسر المحرم شرعا. نعم لا شك أن الخطر هو تكلفة وعبء ينبغي ضبطه وتقليصه إلى أدنى حد ممكن، وإن كان من المتعذر التخلص منه نهائيا. وأفضل طريقة لضبط الخطر هي من خلال ربطه بالنشاط المولد للثروة، فهذه الثروة تجبر تكلفة المخاطر وتعوضها. واشتراط ضمان الملكية لحصول الربح يجعل المخاطر لا تنفك عن النشاط الإيجابي، الأمر الذي يوجه الحوافز المتصلة بالمخاطر نحو توليد الثروة، وهو ما يحقق هدفين في آن واحد: توليد الثروة وتخفيض المخاطر. وكتاب الدكتور السويلم هو أحد أهم كتابين اعتمد عليهما الأستاذ بيرش في كتابه سالف الذكر ''الانهيار النهائي''. وبينت التجارب ـ كما أشار الأستاذ بيرش ـ أن المشتقات, وهي من أهم أدوات معالجة المخاطر, اتجهت إلى زيادة المخاطر بدلا من تقليصها، لأنها فصلت المخاطر عن الملكية وجعلتها سلعة مستقلة متداولة بهدف الربح. وهذا يؤدي وفقا لمنطق آلية السوق إلى تفاقم المخاطر وليس انحسارها. كما يؤدي إلى سوء توزيعها بسبب مشكلات تتعلق بتفاوت المعلومات والانتقاء العكسي. والنتيجة النهائية هي ارتفاع المخاطر وتزايد التقلبات الاقتصادية ومن ثم تراجع الثروة. وهذا ما تؤكده البيانات المتاحة حول نمو المشتقات من ناحية، وتزايد الاضطرابات المالية من ناحية أخرى. وما زال للحديث صلة.